إقصاء المرأة العربية سابق على وجودها: قراءة في جدلية العلاقة بين الطبيعة والثقافة تشير الدراسات العلمية - السوسيولوجية والأنثروبولوجية - وكذلك الوقائع والأحداث الاجتماعية والتاريخية إلى أن المرأة العربية عانت - ولا تزال تعاني بطبيعة الحال - من وجوه شتى من التهميش والإقصاء، ولقد اجتهد الباحثون كثيرا من أجل الكشف عن أسباب ذلك التهميش، وبينت الدراسات أن أحد أهم أسباب إقصاء المرأة وجود منظومة من المعتقدات الشعبية الراسخة في الوجدان الاجتماعي تحط من قدر المرأة وتنتقص من قيمتها. والحق أن المرأة تمثل مجالاً خصباً لتأثير المعتقد الشعبي، حيث تشكلت حولها طائفة من المعتقدات الشعبية الراسخة، أسهمت في صياغة صورة متدنية للمرأة في الوعي الاجتماعي، وقد تكونت تلك المعتقدات من مصادر ثقافية متنوعة: دينية وأسطورية، وقد ظلت المرأة أسيرة لتلك الصورة - بوعي حيناً وبلا وعي في أحيان كثيرة - بحيث تسرب في بنيتها الشعورية واللاشعورية إحساس قد يصل لدرجة اليقين بأن تلك هي صورتها المثلى التي ينبغي أن تحافظ عليها، بل وأن تدافع عنها أيضاً، وفي هذا الصدد يقول المفكر العربي المعروف حسن حنفي، إن المشكلة ليست فقط في العقلية الذكورية المتسلطة، وإنما أيضا في العقلية النسوية الخاضعة. إن القراءة المتأنية للواقع الاجنماعي العربي بمختلف تجلياته القطرية، تكشف أن ثمة قاسما مشتركا في التصورات الاجتماعية العربية حول طبيعة المرأة ودورها وحدودها الاجتماعية والأخلاقية والسياسية. هذا القاسم المشترك يتحدد في أن المرأة هي ذلك الجسد «العورة» الذي يختص بصفات وملامح معينة، وبالتالي ينبغي أن يحجب و«يحاصر» في نطاق محدد لا يتجاوزه، وتتمثل وظيفته الأسمى في القدرة على إعادة الإنتاج البشري (الإنجاب، وخاصة إنجاب الذكور) ويظل ذلك التصور المختزل محايثاً للمرأة في مختلف مناشط الحياة الاجتماعية. وقد كشف التراث السوسيولوجي والأنثروبولوجي أن ملامح صورة المرأة تبدأ في التشكل منذ اللحظات الأولى لوجودها في عالم المادة، فثمة تصورات وأفكار سلبية تستبق وجود الجسد الأنثوي، أفكار وتصورات تعكس أمراً واضحاً وحاسماً: «إنه جسد غير مرغوب فيه undesirable وغير مرحب به». يعاني الجسد الأنثوي في لحظاته الأولى من التمييز النوعي، يعايش مبكرا إشكالية المقارنة بالجسد الذكوري، وبالتالي فالمكانة الاجتماعية التي سيشغلها ذلك الكيان الاجتماعي الوليد قد عرفت و"حسمت" و«حددت» سلفاً. فالإقصاء والتهميش سابق فعليا على وجود المرأة في الواقع الاجتماعي. تقول الدكتورة زينب المعادي في دراستها الرائدة التي تحمل عنوان الجسد الأنثوي وحلم التنمية: تبدا الكتابة التمييزية على جسد المرأة وهي ما زالت بعد جنينا في بطن أمها، منذ ما قبل الولادة تبدأ عملية منح خطوط التمييز المشكلة ثقافيا طابعا بيولوجيا، تتضح معالم هذه الكتابة في القواعد التي تنصح النساء باتباعها للحصول على جنين أنثى أو جنين ذكر، وكذلك من خلال مؤشرات يعتقد أنها تسمح بمعرفة جنس الجنين وهو ما زال في بطن أمه.(المعادي 59:2004) فتتضح أولى مظاهر التمييز في المؤشرات التي تدل على نوع الجنين، فالمعتقد الشعبي العربي يحدد سمات معينة للحامل بأنثى، وسمات أخرى مغايرة للحامل بذكر، سمات الحمل بأنثى هي سمات سيئة وسلبية، أما سمات الحمل بذكر فهي مبهجة وإيجابية. وهو ما يؤشر على المكانة المستقبلية المتدنية للأنثى. الحامل بذكر وفق المعتقد الشعبي العربي(في مصر وليبيا والمغرب على سبيل المثال) تبدو عليها علامات الجمال، أما الحامل بأنثى فتسوء حالتها الجمالية، فيحدث لها تفلطح في الأنف، وتضخم في الشفتين، ويمتلئ وجهها بالبقع السوداء (المعروفة بالكلف) ويحدث ترهل في جسدها. كما تتسم حركة الجنين الذكر بالقوة والحيوية، وتبدأ حركته مبكراً منذ الشهر الثالث، أما حركة الأنثى فهي ضعيفة ساكنة، «إنها تشبه حركة الدودة» أو «السمكة في المياه»، وتبدأ حركة الأنثى متأخرة عن الذكر.الحامل بالأنثى تتسم بالضعف، وتعاني كثيراً أثناء حملها، لأن وضع الأنثى متجه نحو «الأسفل» ولذا فإن الأم تشعر بضغط شديد على أسفل الظهر، مما يجعلها غير قادرة على الحركة بخفة ونشاط، أما وضع الذكر فيكون متجهاً «لأعلى» ولذلك فلا يمثل مشكلة لأمه، وبالتالي فهي دائماً نشطة وأكثر حيوية. إن الحمل بذكر يعد حملاً «سهلاً ميسراً»، أما الحمل بأنثى فهو حمل «صعب ثقيل». ويترسخ في ذهن النساء ارتباط حمل الأنثى بالمرض، وتفسر الحامل إعيائها في فترة الحمل بأسباب وتفسيرات مهيأة سلفا، وهذا بالطبع يمنعها من البحث عن الأباب الحقيقية للإعياء، مثل هذه التفسيرا قد تجعل المرأة تتحمل حالات حمل صعبة بحجة أنها تدل على حمل أنثى، ولا تتجه لبحث الأسباب الحقيقية؛ لهذا ربما يكون من القضايا المهمة التي ينبغى مراعاتها في أي مشروع يتعلق بصحة الحوامل، العمل على محو تلك الأفكار المسبقة - أي تغيير إدراكات النساء وتصوراتهن لأجسادهن، ونشر المعلومات الصحيحة عنه. (المعادي 61:2004) الملاحظ هنا أن ثمة ثنائية حادة: جمال / قبح، قوة وحيوية / ضعف وسكون، اتجاه نحو الأعلى / اتجاه نحو الأسفل، حمل ميسر سهل / حمل صعب، إنها ثنائية تكشف عن تمييز مبكر ضد الجسد الأنثوي، يعلي من قيمة المذكر، ويحط من قدر المؤنث. ولا يقف الأمر عند تلك الثنائية «النظرية» وإنما يتجاوز ذلك إلى مستوى الممارسة، فعندما يتأكد نوع الجنين بالوسائل العلمية الحديثة، يحدث تباين كبير في معاملة الأم، فالاهتمام بالناحية الصحية في حالة الذكر يكون شديداً، حيث تتردد باستمرار على المستشفى كما تعفى من مسئوليات كثيرة، ويكون الجميع في خدمتها، وهذا الأمر لا يحدث غالباً في حالة الأنثى، فالاهتمام يكون ضعيفاً من جانب الزوج والمحيطين به، ولا تتم المراجعة الدورية لدى الطبيب، كما أنها قد تمارس أعمالها المعتادة وكأنها ليست حاملاً. وتكرس لحظة المخاض والولادة التمييز الواضح بين الذكر والأنثى، فثمة اعتقاد شائع بين النساء بأن آلام ولادة الذكر تكون بسيطة ومتقطعة، في حين تتسم ولادة الأنثى بالآلام الحادة والمخاض الطويل، ويرتبط ذلك بالطبع بالاعتقاد السائد عن أن حركة الذكر تكون قوية أثناء الحمل، وبالتالي فإن عملية الولادة تكون سهلة. إن عملية آلام المخاض ليست عملية عضوية خالصة، وانما هي فوق ذلك عملية نفسية اجتماعية وثقافية معقدة، ترتبط بآليات التمييز النوعي بين الذكر والأنثى وما يترتب عليها من نتائج خاصة في المجتمعات التقليدية. والحقيقة أن الاختلاف في درجة آلام الولادة يلعب فيه الخيال الشعبي دوراً بالغ الأهمية، حيث تتحدث النساء عن اختلافات لا يؤكدها الطب، وإنما توجد فقط في الخيال الاجتماعي، ويلعب الجانب النفسي دوره فيه، فالحقيقة أن ولادة الأنثى ليست صعبة، وإنما تأكد الأم من جنس وليدها أنه أنثى جعل قدرتها على التحمل أضعف ومن ثم زاد إحساسها بالألم، في حين أن الأم بعد تأكدها أن وليدها ذكر وما يتضمنه ذلك من ترقية اجتماعية في وضعها «نسيت» آلام الولادة وتحملتها بجسارة.(زينب المعادي 2004: 62) وتمثل مراسم استقبال المولود بعداً آخر في رسم صورة الجسد الأنثوي، ذلك الجسد غير المرغوب فيه، فبمجرد ولادة الجنين والتأكد من ذكورته تعم الفرحة المكان، وتنطلق الزغاريد وتملأ المكان، وتتردد الأغاني والأمثال الشعبية المبتهجة بمجئ الذكر: لما قالو لي دا ولد اتشد ضهري واتسند( مثل مصري) هلي جاب ولد سعدوده... ياكل وكراعه ممدودة (مثل ليبي يعني ما أسعد من ينجب ولداً، فيأكل وكراعه (ساقيه) ممدودة، كناية عن الرضاء والفخر أيضاً) تبكر بالوليد والفايدة تملا الإيد (مثل مغربي) وبكر المعاريس ولد (مثل عماني) وفي المجتمع الموريتاني تتعدد طقوس الاحتفال بإنجاب الذكر من إقامة حفل عقيقة فخم وذبح النوق ودق الطبول وإطلاق أعيرة نارية احتفالا بالحدث، وبالمقابل يقتصر الاحتفال بإنجاب الأنثى على إقامة حفل عقيقة بسيط، ويمكن للشخص أن يتنبأ بجنس المولود انطلاقا من طريقة الاحتفال في حفل العقيقة. فلحظة ولادة الأنثى، هي لحظة حزينة، فلا يمكن لإحدى الحاضرات أن تطلق زغرودة واحدة، فالحدث غالباً ليس سعيداً، بل إنه حدث سيئ ومؤلم، حكت إحدى المبحوثات للدكتورة زينب المعادي أنها كادت تشتكي المولدة التقليدية (القابلة) لممثل السلطة المحلية، لأنها زغردت أثناء ولادة زوجة ابنها لأنثى، وكانت محرجة جدا من الجيران الذين سمعوا الزغاريد، ثم اكتشفوا أن المولود أنثى. إن ولادة الذكر تعني أن عائلة جديدة تتكون، لإنه عندما سيتزوج ستضاف عائلة جديدة للمجموعة القرابية، أما ولادة الأنثى فتعني عائلة ستتكون بعيدا عن المجموعة الأصلية، وهذا ما يعبر عنه المثل الشعبي المغربي الولد ييجي بخيمتو واللي اتولدت بنت خيمة طاحت(سقطت).(المعادي 72:2004) وتؤكد بعض الأمثال الشعبية العربية تلك المعاني التي تحط من قدر الأنثى: (البنية ما هي بشارة . . . إلا فرحة المتشمت) مثل بحريني، ( ولما قالو لي دي بنية انطبقت الدار عليا) مثل مصري «يا جايبة البنات، يا حاصدة الهم بالحفنات» مثل ليبي. (يا مخلفة البنات يا شايلة الهم للممات) مثل مصري. إذن فالجسد الأنثوي جسد غير مرغوب فيه، ويمثل وفق المعتقد الشعبي حدثاً سيئاً، لا ينبغي بحال الابتهاج له، أو الفرح بمقدمه، بل يجب تحمله على مضض، إذ لا مناص من استقباله. ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أن القرآن الكريم قد صور ذلك المشهد تصويرا بليغا عندما قال تعالى في سورة النحل:وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ{58} يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ{59} وإذا كان ما سبق ذكره، يرتبط بالمولودة الأنثى ومصيرها المنتظر، فإن الصورة تزداد قتامة فيما يتعلق بوضع المرأة التي ولدت تلك الأنثى، ينبغي أن نشير بداية إلى أن عملية الولادة ليست مسألة عضوية خالصة، وإنما هي عملية اجتماعية وثقافية مركبة، فالقواعد التي تتأسس عليها تنتمي إلى مجال الإنتاج الاجتماعي والثقافي، بمعنى أن خصوبة الجسد الأنثوي تمنح المرأة مكانات وسلطات اجتماعية معينة، كما أن غياب الخصوبة يسحب من المرأة مكانتها، ويسهم في إقصائها وحرمانها من مكانات وسلطات اجتماعية متعددة. (زينب المعادي 2004: 103) إن الممارسات الإنجابية تمثل موقعا هاما لاختبار الآليات التي تدعم الهيمنة والقهر المستمر على النساء، فالخطاب المصاحب للأمومة يكشف الدرجة التي وصل إليها قهر الجسد الأنثوي لتدعيم دائرة السلطة الأبوية، فعلى سبيل المثال تدور أغاني وأشعار الحياة اليومية في القرية الهندية التقليدية حول بعض جوانب الإنجاب، كما أن شبكة العلاقات الاجتماعية للمرأة تتشكل وفقا للديناميات الاجتماعية للإنجاب، وتنخرط النساء في مختلف المراحل العمرية بفاعلية في الطقوس المرتبطة بالحمل: انتظار المولود والاشتياق له، التوافق مع خيبة الأمل الناتجة عن عدم الحمل، مساندة الأم الحزينة لفقد احد أبنائها.إن الإنجاب إذن هو أكبر من مجرد التناسل بالمعنى العضوي ، إنه عملية مرتبطة بالنسق الثقافي. Hegde 1999:507)) وقد كشفت الدراسات الميدانية المتعددة عن رؤية المعتقد الشعبي العربي للجسد الأنثوي المنجب، حيث يرسم ذلك المعتقد صورة مشرقة الملامح للمرأة المنجبة في مقابل صورة شديدة القتامة والقسوة للمرأة العاقر، ويتضح ذلك في الصفات التي توصف بها المرأة العاقر، فيقال عنها إن «دارها خالية» و« (المرأة) اللي ما عندهاش صغار مربطها زي مربط الحمار» كما توصف المرأة العاقر بأنها كالشجرة اليابسة أو النخلة (الدكر)، وغالباً ما تطلق المرأة العاقر، أو يتم الزواج عليها. أما المرأة المنجبة، فإن المعتقد الشعبي يمنحها مكانة عالية بل ويعطيها سلطات عديدة خاصة إذا أنجبت الذكور، يتضح ذلك بداية في الترحيب بها في بيت الزوجية باعتبارها سبباً في إعماره بالأولاد، تخاطب الأخت زوجة أخيها: «مرحباً بمرة خوي(زوجة أخي) ... يا معمرة بيت بوي(منزل أبي)» ويقال عن المرأة المنجبة «أم الأولاد، والعزة الشداد» و«الولد خير من حفنة مال». ونتيجة لذلك، فإن ثمة اهتمام خاص من جانب المرأة بأن تنجب سريعاً، ويمثل تأخر الحمل مشكلة بالغة التعقيد في الثقافة التقليدية، وتلجأ المرأة لكل الوسائل الطبية -الرسمية والشعبية- من أجل حدوث الحمل، لأن تأخر الحمل يسهم في إقصاء المرأة، وتهميشها، وربما يسبب في طلاقها. ولذلك يمتد الاهتمام بالمرأة ويزداد في لحظة الولادة، وهي لحظة فارقة في مسيرة الجسد الأنثوي، حيث أن الولادة هي الخطوة الأساسية للزوجة لكي تعزز مكانتها الاجتماعية، إنها تشكل الخط الفاصل بين مرحلتين في حياتها، بل خطاً فاصلاً بين مكانتين، كأننا أمام عملية تبادلية تمنح فيه المرأة جسدها وقدرتها الإنجابية لصالح الجماعة، لكي تتلقى منها اعترافاً اجتماعياً، كأن المرأة ذاتها تعيش ولادة جديدة، ولادة اجتماعية تمنحها مكانة جديدة، خاصة إذا كان المولود ذكراً. (زينب المعادي 63- 64) إن الاهتمام برعاية الحامل وتلبية رغباتها، لا يعني - في أغلب الأحيان- اهتماماً بالمرأة في ذاتها ككائن اجتماعي، وإنما يعكس رؤية المجتمع للمرأة كجسد منتج يساهم في إعادة إنتاج النوع الإنساني، ويسهم من ثم في تقوية البنية الاجتماعية والقرابية، وتدعيم البنى الاقتصادية داخل المجتمع. يتضح إذن مما سبق أن الجسد القادر على الإنجاب يمتلك جواز عبورة وارتقاءه في الفضاء الاجتماعي، فالرحم - وهو العضو الذي يرمز للوجود البيولوجي - هو نفسه شرط ارتقاء المرأة ككائن اجتماعي، إنتاج الرحم بالنسبة للمرأة هو بمثابة التوقيع الذي يذيل به أسفل الوثيقة، والذي يمنحها مصداقية جديدة وحقيقية، فالمرأة لا تملك قيمتها ككائن إنساني بمجرد إطلالها على العالم بل إن تكّون النطفة في رحمها لولادة طفل هو الذي يجعلها تولد كأم « فالمرأة العربية تولد من رحمها كأنها تلد نفسها»"1" (المعادي: 114) "1" هذه العبارة نقلتها زينب المعادي عن مالك شبل في كتابه الخيال العربي الإسلامي M. Chebel, الصادر في عام 1993:L'imaginaire arabe- musllman, 1993.