من هناك انطلقت ، من ذلك الوطن الأخضر الذي حوله بنعلي الى يابس مع سيطرة ليلي و تجاوزات ، أسرتها التي ما إن وصلت الى السلطة حتى تجبرت في وجه الطبقة التي كانوا ينتمون لها عندما كانت حاكمة قرطاج مجرد حلاقة لا مكان لها غير لتجميل الأظافر و تلميع شعور سيداتها وبسبب ذلك "البوعزيزي" الذي حرر تونس بكافي الكرامة و الكبرياء ، دفع الثمن لوحده ، لكنه ربما لن يكون غاليا إذا تعلقت تضحيته بثورة رسمها التاريخ و اعترف بها العالم، جعلت من عرش بنعلي يتزعزع ،بل ينجلي و كأنه لم يكن ، و كأنه لم يحكم تونس الخضراء ، ليصبح زين الهاربين. ثم انتقلت موجة الغضب لتشمل أحفاد الفراعنة الذين صمدوا لأسابيع غير آبهين بخاطابات السيد الرئيس المموهة للحقيقة و لا للبيانات الواعدة بالاصلاح أو التعيينات الارتجالية التي كان قد فاتها الاوان ، فلم يعد ينفع لعب في الوقت البدل الضائع ، و ما أحدثه النظام من اضطهاد وتعسف طيل الثلاث عقود لن تقوى على حله قرارات اتخذت في ساعات بعد أن بلغ الخوف جمجمة مبارك الهرمة ، و صار يرى موعد السقوط يدنو مع كل جمعة يخوضها ملايين من شعبه و مع كل مظاهرة تزداد فيها قوة عزيمة شعب الكنانة ...حتى مع وعوده بالتغيير و كلامه المنمق الذي كان يتعمد أن يثير فيه مشاعر الشعب المصري و يحاول بذلك استمالة عواطفهم و تذكيرهم بما أسلفه من عطاء خلال فترة خدمته المطولة ، عن أي عطاء كان يتحدث هذا ؟؟ عن الفقر المدقع الذي كان يعيش فيه شعبه الذي يدعي الآن أنه يصبو فقط الى مصلحته ، أم على وجبات الفول التي تحضر عند عائلات تتمكن من شراءه ، وتستغني مقابله عن اللحم الذي يحضر في المناسبات فقط ، أو ربما عن رغيف الخبز الذي يقف من اجله الفرد طوابير مطولة ليحصل بضع أعداد من العيش ملتصقة بالرماد و في كثير من الحالات معفنة أو ممزوجة بالشوائب كما جاء في برنامج وثائقي سالف..هذه هي الخدمات التي أسلفها لبلد النيل ، لا بد و ان نشكره على جهده هذا ، فلم يكن له وقت كافي للتفكير أكثر في قضايا الشعب وطموحاته ،كان منشغلا بتسخين حسابه على حساب جنيهات العباد و تأمين مستقبل أحفاد أحفاد أحفاده على رقاب اولاد اليوم ،هو حسني مبارك و سوزان ، هو بنعلي و ليلى ، رؤساء "شدوا الوتاد و ولدوا الولاد" لكنهم لم يقيموا حسابا لطاقة الشعب و لم يقدروا الخاصية الفيزيائية التي تفيد أن نهاية كل ضغط انفجار. موجة التغيير باتت تستفحل من بلد لآخر ، صارت تنشر ظلها بين ثنايا الوطن العربي ، ما بين البحرين ، الكويت ، المغرب ، و ليبيا ، الطامة الكبرة و الكارثة الأعظم التي تحول فيها التظاهر إلى حمام دماء لا تراعى فيه حقوق الشعب و لا حقوق الانسان ، حتى أن نسق التظاهر و جاذبية التعبير باتت تفقد روحها مع كل شهيد يسقط و ربما ستزيد من بسالة شباب تونس الذي أرهقتهم قرارات متخبطة و نظام شاذ خارج عن المألوف ، لكن الشعب هذه المرة اختار المألوف و سعا الى التغيير كغيره ، يريد كل ليبي أن يبين للعالم أسره أنه يستطيع الفعل شأنه شأن المصري و التونسي قبله ، و بين كل هؤلاء تتسلل تيارات دخيلة تربط مصيرها برؤى مغلوطة عن الواقع ، و أخرى تستغل الصراع القائم بين مؤيد و معارض للنظام ، لتحقق مصالح لا تجد منفذا للانبثاق الا في مثل فترات الشغب و التخريب و الدمار التي يهم إليها بعض الشباب كفعل أو ردة فعل.لم يكن للبوعزيزي أن يعلم أن قراره الشخصي سيقلب الامة العربية رأسا على عقب ، لم يكن يدري انه سيسقط نظام أكبر هياكل القوة و الدهاء السياسي ،لم يكن يعي دوره في جعل 2011 سنة تغيير الأنظمة بامتياز ، فعلها عن غير قصد ، أضرم النار بجسده ، و في الحقيقة كان يضرمه في نفس كل عربي سئم مهانة العيش و ذل التعامل و قهر رئيس متسلط دخل و لم يخرج ، كأنه يريد التعمير و يود توريث المنصب لابنه مع أن الدولة جمهورية ديموقراطية و ليست بالملكية بالنسبة لمصر و ليبيا و تونس. لم يكن ذلك الشاب البسيط ينوي إشعال الفتنة ، لكنه فعلها ، و حرر الامة بأسرها بوضعها على أول طريق عرفنا فيه البداية مع تونس ، و النهايةمجهولة ، يعيش معها الرؤساء على صفيح ساخن و تعايشها الشعوب برغبة لافحة في التغيير ، فكيف سيكون هذا التغيير الذي يطالب به الشاب العربي ؟؟ و هل ستصبح الانتفاضة و الثورات مجرد موجات عابرة ستفقد مذاقها لتتحول الى مجرد تقلييد أو سيرورة لبلوغ أهداف خاصة ؟؟