mhairane.wordpress.com/ وضعت الثورة التونسية أوزارها.. ففي اللحظة التي أكتب فيها هذه الكلمات، أتابع تغطية قناة « تي. في 5 » الفرنسية من عين وقلب وعقل الثورة.. الهدوء يعود حثيثا إلى الشوارع التونسية، وآبَ زمام الأمور إلى الإسقرار، بعد سيطرة المجتمع مدعوما بالجيش على وضع الاأمن الذي خلفه رحيل الديكتاتور « زين الهاربين بن جري » (هذا هو اللقب الذي التصق بالرئيس التونسي المُطاح به زين العابدين بنعلي في نوادي الدردشة في النيت، بين التونسيين ونظرائهم عبر البلدان العربية) وحصوله على لجوء صعب في كنف خادم الحراميين (وهي طرفة أنترنيتية عربية أخرى في نفس النطاق) فماذا بعد؟ الأخذ والرد السياسيان على أشدهما بين فرقاء المشهد السياسي والقانوني والحقوقي والفكري في تونس.. هل يُكتفى بالإحتكام إلى فصلين دستوريين (56 و57) في حسم إشكال انتقال الحكم بعد هرب « بنعلي »؟ الفصل الأول تم إقبار مفعوله في ظرف 24 ساعة حين تم نزع منصب رئيس الجمهورية من الوزير الأول « محمد الغنوشي » تحت ضغط الشارع التونسي.. وتفعيل الفصل الثاني بتولي رئيس مجلس النواب « لمبزع » ذات المنصب بصفة مؤقتة مرهونة بإجراء انتخابات رئاسية في أجل أقصاه شهران، وتكليف « محمد الغنوشي » بإجراء مشاورات لتشكيل حكومة وحدة وطنية.. وأهم ما جاء به هذا المعطى أن ثلاثة أحزاب مُعارضة ستكون ممثلة فيها بالإضافة إلى رموز نقابية وحقوقية، كانت إلى وقت قريب « شياطين ماردة » في عُرف النظام السابق.. كما أن المُعارض التونسي الحقوقي « منصف المرزوقي » هو أول مَن أعلن ترشحه لإنتخابات الرئاسة المُرتقبة.. هذه مُعطيات كانت منذ بضعة أسابيع من قبيل أضغاث أحلام، أو هرطقات مجنونة، لو « تنبَّأ » بها متنبىء، لكنها الآن حقيقة ملموسة تشكل صلب الحياة السياسية في تونس، وموضع أخذ ورد بين مؤيد ومُعارض، من مثل: هل يُعقل أن يُشرف رموز (الغنوشي ولمبزع..) النظام السابق المُطاح به،على تشكيل الحكومة، والمُشاركة فيها بوزراء؟ ألا يجدر حل كل مؤسسات النظام السابق، وانتخاب مجلس تأسيسي يسهر على وضع دستور وطرحه للإستفتاء الشعبي، ثم يُصار إلى تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية؟ إلى غيرها من الأسئلة الشائكة، غير أن هذا النقاش يتم في أجواء حُرة، تكفل حرية الدفاع عن طرح « التوافق » أو انتقاده، بل وحتى رفضه جُملة وتفصيلا، كما يفعل حزبا « العمالي الشيوعي » و « حركة النهضة » مثلا، وهذه أجواء صحية تُبشر بإرساء دعائم الدولة الديموقراطية بعدما كانت « حلما » بعيد المنال.. مهما آلت إليه الأمور في تونس الخضراء « عميدة الثورة العربية » فلا شىء سيؤوب إلى « سالف العصر والأوان » فعجلة التاريخ دارت بسرعة رهيبة، لتطوي حقبة تونسية داكنة، وتفتح صفحات أخرى ستُكتب باقي سطورها بمداد و »مزاج » مختلفين تماما. إنه حسم باتر، كيف؟ ظلت طائرة الرئيس « زين العابدين بنعلي » تحلق لساعات في حركة دائرية واسعة فوق أجواء جزيرة « مالطا » ليلة الجمعة الماضية، بينما كانت أذنا الرجل وقلبه مُعلقين بهاتفه النقال.. اتصل ب « زملائه » و « أصدقائه » الملوك والرؤساء عبر العالم، سيما في الضفتين القريبتين من تونس: فرنسا مالطا وربما مصر والمغرب وسوريا.. بحثا عن ملاذ وما من ملاذ.. تقول نكتة أنترنيتية أن المُكالمة التي دارت بين « بنعلي » و « ساركوزي » تمت على هذا النحو: آلو؟ فخامة الرئيس نيكولا ساركوزي؟ نعم؟ مَن المُتحدث؟ « صديقك زين العابدين بنعلي.. » « أغرب عن وجهي أيها الغبي »! إنها نكتة قد لا تبتعد كثيرا عن « روح » تلك اللحظات العصيبة على « بطلها » بالنظر إلى أن الحكومة الفرنسية « سارعت » إلى التأكيد عبر بلاغ رئاسي بما مفاده « إن الرئيس التونسي (المخلوع) غير مُرحّب به في فرنسا » كما تم الحجز على حساباته المالية هو وأقاربه في فرنسا (ثمة مُعطيات قيد التبلور، تُفيد أن دولا أوروبية وغربية أخرى ستقوم بنفس الإجراء) وقبل هذا وذاك، كان الرئيس الأمريكي « باراك أوباما » قد « طَيَّر » تأكيدا صريحا: « لا لاستعمال القوة المفرطة لقمع الشعب التونسي » أتبعه بآخر « نُشيد بشجاعة وكرامة الشعب التونسي » والمستفاد غربيا، وعلى أعلى المستويات الرسمية: لا حاجة بنا إلى « عملائنا » (زين العابدين بنعلي كان عميلا لوكالة الاستخبارات الأمريكية) المهزومين، والكلمة للشعب الذي استحقها عن جدارة.. أما فرنسيا، وعلى نفس المستوى فالمُستفاد: « ارحل يا (صديقنا) بنعلي غير مؤسوف عليك، فنحن لن نُغامر بمصالحنا (الراسخة) في تونس من أجلك ». وكانت تلك أيضا، رسالة واضحة للرئيس المُطاح به: أنت منبوذ. إنها أيضا رسالة « عنقودية » في اتجاه كل العواصم العربية « صدَّقت » عليها وزيرة الخارجية الأمريكية « هيلاري كلينتون » حينما « قرَّعت » وزراء الخارجية العرب في أحد الأيام القليلة الماضية حين انعقاد قمة المستقبل، بتزامن مع غليان مرجل الثورة التونسية، وأمرتهم ب « الإنصات لشعوبهم قبل فوات الأوان ». بوادر السمع والطاعة صدرت « توا » من « المُقرَّعين »: في مصر تم التراجع عن كل الزيادات في أسعار المواد الغذائية.. في سوريا أُحدث صندوق للرعاية الإجتماعية بملايين الدولارات، في الجزائر وليبيا واليمن والأردن.. كان « العزف » على نفس الوتر الإجتماعي درءا، أو بالأحرى « إبطاء » لمفعول قنبلة موقوتة أبدية. لقد وُلدت ثورة عربية.. ليس على ظهر ذبابة أو انقلاب أسري أو جماعة إسلامية متطرفة وما شابه، بل بضغط من الشارع في واحد من أصغر البلدان العربية (انظروا إلى خريطة تونس) وأقلها سكانا (10 ملايين نسمة) وهو ما معناه أن « خطر » الثورة في باقي البلدان العربية مثل مصر والجزائر والسودان.. هو مضروب في عشرات الأضعاف، يكفي أن نذكر أن « انتحاريين اجتماعيين » أعلنوا عن أنفسهم في الجزائر ومصر، على خطى « محمد البوعزيزي » البائع المتجول الذي أحرق نفسه وأحرق معه واحدا من أعتى الأنظمة الديكتاتورية في العالم. ماذا عن المغرب؟ خيَّم صمت مُطبق على المستويات: الرسمي والحزبي والشعبي والإعلامي.. حول ما جرى ويجري في تونس.. اللهم من مُظاهرات « خافتة » لحقوقيين من الجمعية المغربية لحقوق الإنسان وبيان لحزب النهج الديموقراطي أيد الشعب التونسي وهنأه على طرد الطاغية بنعلي، أما حزب العدالة والتنمية الإسلامي « المعتدل » ف « حذر » من ثورة تونس..( إضافة تحيين: وأخيرا صدر بلاغ رسمي مغربي في وقت متأخر من ليلة الأحد الماضي يُعلن « التضامن مع الشعب التونسي الشقيق »). غير أن من طريف ما يُذكر أن الإعلام الرسمي: القناتان الأولى والثانية ووصيفاتها، انتظرت حتى بدأت مظاهر « الفلتان الأمني » في شوارع العاصمة التونسية وحرب الشوارع في باقي المدن التونسية، جراء معارك بين عناصر الحرس الرئاسي لبنعلي والمتظاهرين مدعومين بالجيش.. انتظرت ذلك لتبث صورا و »تعليقات وصفية » عن حالة « الفوضى والاأمن » في تونس.. ل « تحذر » المُشاهدين المغاربة من « مغبة » الثورة على النظام الملكي المخزني، حيث سيكون « سوء المآل » ! المُستفاد: النظام الملكي مصدوم ومشدوه وخائف، مما وقع ويقع في تونس، وليس له من رد « رسمي » سوى الصمت « الناطق » و « ترويع » جحافل « الغاشي ».. وللحقيقة لم يكن ذلك كل شىء، فحسب مُعطيات مُستقاة، فقد تم الإقدام بشكل « خجول » على إجراءات « تخفيف » و »تشدد » من قبيل التنازل عن زيادات في الأسعار دخلت حيز التطبيق مع السنة الميلادية الجديدة، وتعميم حالة طوارىء أمنية « باردة ». هذا كل شىء أو تقريبا، فهل سيقف الأمر عند هذا الحد؟ بالتأكيد لا. الثورة التونسية رسالة « عنقودية » في كل الإتجاهات، كما سلفت الإشارة، ستفرض أجندة جديدة على المستويين الداخلي والخارجي. على المُستوى الأول سيكون هناك « حذر » أشد من السابق من طرف النظام الملكي المخزني، حُيال « نبض » الشارع، هذا لا يحتاج إلى تأكيد من فرط « بداهته » لكن غير المؤكد هو أن طريقة التعاطي مع حالات الإحتقان الإجتماعي ستشكل مأزقا حقيقيا للنظام، ففي حالة « التساهل » معه سيُفتح محذور اندلاع ما لا تُحمد عقباه (على النظام طبعا) كعدم القدرة على التحكم في الأبعاد « الضبطية » الإجتماعية والأمنية والسياسية، أما إذا تم « التشدد » حياله (الإحتقان الاجتماعي) فثمة محذور صدور بلاغ أمريكي « قلق من الإستعمال المُفرط للقوة » وكلاهما خياران أحلاهما مُرّ. هل ثمة أفق بمعزل عن هذين « النفقين »/الخيارين؟ نعم ولا. لنشرح: اختار النظام الملكي المخزني في « عهده الجديد » سياسة « الإستمرارية » بدعوى عدم خلخة الأوضاع القائمة.. وهي للتذكير دعائم الدولة المخزنية المتمثلة في الضبط الأمني المتشدد (سيما بعد 16 ماي 2003) والإقتصادي الريعي (الملك سابع أغنى شخصية حاكمة في العالم) وسياسي (الحفاظ على ذات الآلية السياسية التعددية الصورية، مع الإمعان بشكل غريب في تمييعها) وتخبط هواة، واضح وفاضح، في التعاطي مع ملفات حساسة: قضية الصحراء.. ومعنى كل هذا وغيره، مما يضيق المجال عن جرده: لا جديد تحت الشمس، بل هناك أسوأ منه. كيف؟ مثلا يُعتبر المغرب واحدا من أكثر البلدان في العالم اعتمادا على الرشوة و « ثقافتها » في كل مؤسساته الإدارية والإقتصادية والقضائية.. إلخ، ويبدو أن هذه المعضلة مُستفحلة لدرجة أن « الحل » الذي ارتكنت إليه الدولة هو: اللاَّ حل.. وكأن لسان حال النظام الملكي المخزني يقول: لا أحد، باستثناء أصوات حقوقية وسياسية معزولة، يريد التخلص من الرشوة، فلماذا أركب خطر زعزعة وضع راسخ مرغوب فيه من طرف الجميع، انطلاقا من شواش الإدارات إلى أعلى درجات الوظيفة العمومية في كل مؤسسات الدولة؟ الواقع أن الجواب لم يقف عند هذا الحد، فثمة إفادة أخطر أعطاها لنا موقع « ويكيليكس » جزاه الله عنا كل خير، مؤداها: ثلاثة أشخاص هم الملك وصديقيه الهمة والماجيدي، يحتكرون القرار الإقتصادي، ويتلقون رشاوى عن أكبر الصفقات الإستثمارية الخارجية في البلاد. هذه مُعطاة خطيرة بكل المقاييس (لم ينشرها أحد الصحافيين من بلاد المخزن والغاشي حتى يسهل التنكيل به تحقيقا وسجنا أو ما هو أخطر منهما) لم يتم تكذيبها من طرف الديوان الملكي، كما لم تتم مُتابعة مقترفها « جوليان أسانج » وبالتالي فهي حقيقة ستظل لافتة مُعلقة على باب القصر وجبين سيده وخادميه المومأ له ولهما في ذات الوثيقة. إنه مسار ذا اتجاه أحادي عماده الإغتناء السريع: ثروات خدام النظام المخزني الجدد تضاعفت في وقت قياسي، مُقارنة مع أسلافهم، على سبيل المثال ما راكمه عبد الفتاح افرج السكرتير الخاص للحسن الثاني في ظرف ثلاثة عقود من الزمن، لا يشكل تقريبا سوى الربع مما راكمه محمد منير الماجدي السكرتير الخاص لمحمد السادس، في ظرف عقد من الزمن أو يزيد قليلا، وتفسير ذلك أن خدام المخزن الملكي في عهد الحسن الثاني كانوا « يستثمرون » في مواد البناء والخشب والطماطم.. أما هؤلاء الذين أخذوا « مواقعهم » في عهد محمد السادس ف « يستثمرون » في مجالات الإشهار والسيبرنتيك والإلكترونيات بالإضافة طبعا إلى « السيما والرملة » لضرورات مزج « الأصالة والمعاصرة » ! إنه مسار « سريع » إذن يؤدي إلى وِجهة واحدة لا ثاني لها وهي توسيع رقعة السخط (ليس فقط في وسط رقعة الغاشي الواسعة حتى لا يصمنا أحد ما بالشعبوية) بل في أوساط المستثمرين المغاربة (لماذا في رأيكم لجأ رجل أعمال مغربي إلى الكشف عن ضيقه من جشع الإثراء المثير للإستغراب، ضمن الحيط الملكي، للسفير الأمريكي الأسبق في الرباط « طوماس رايلي » وهو ما كشف عنه موقع ويكسليكس أيضا؟).. أما المستثمرون الأجانب فثمة، حسب وثيقة « ويكيليكس » دائما، مَن يتقززون من الوضع « غير الإعتباري » للإستثمار في البلاد ومن تم يرفضون أسلوب الإبتزاز (الرشاوى) أو « يتعايشون » معه. وبالتالي فإن اتساع رقعة هذا السخط المتعدد الأبعاد والهويات الإجتماعية والقِطاعية، يُفيد استخلاصا « فضفاضا » واحدا: رؤوس النظام الملكي المخزني يُعدُّون العدة ليوم لا ينفع فيه لا « منبت الأحرار » ولا شعار « الله الوطن الملك » ولا « ساركوزي » ولا غيره من « الأصدقاء » بل فقط مَن أتى خادم الحراميين بقلب غير سليم.. كما يُمكن ألا يحدث أي شىء تماما، فتظل دار لقمان على حالها و « نحن فيها من الفائزين ». إنها لعبة روليت روسية. ذلك أنه لا أحد يُمكنه أن يتكهن بموعد « القيامة » فتونس مثلا ظلت حتى أربعة أسابيع قبل ثورتها المجيدة « نموذجا » مُحتفى به غربيا وعربيا و « مقتدى » به مخزنيا.. لذا يُمكن أن « يستفيد » المخزن الملكي من « عبرة » ما وقع في تونس من خلال « سياسة » مُراكمة المزيد من أكداس الأموال (حسب جريدة لومند الفرنسية فإن الرئيس زين العابدين بنعلي قد يكون هَرَّبَ طُنّا ونصف طن من الذهب) ليوم أسود قد يأتي أو لا يأتي. أما المسار الآخر الجديد تماما، وهو الذي يشكل الأفق « الممكن » بين الخيارين « المُرَّيْنِ » فيتمثل في إفراغ خزائن الملك وكبار خُدامه وضخها في المالية العامة للبلاد (أي إرجاعها إلى أصلها الذي « انطلقت » منه).. وإعادة ترتيب أركان البيت السياسية والإقتصادية والإجتماعية.. على أسس متينة جديدة، بدونها لا تقوم حياة المجتمعات، بل تظل عالقة بين قوسين أحدهما من حرير والآخر من شواظ نار. هل هو أفق مستحيل؟ نعم.. والحل؟ لِيَسِر المركب حتى وجه الصخرة المُسنَّنْ أو ليظل حيث هو.