شحنة من الغضب ، تحولت بعد عشرات السنين إلى بركان ، ما لبث أن وجد منفذا للانفجار مباشرة بعد واقعة "البوعزيزي" الذي حطم قيود الخوف و أغلال الجبن و هو يضرم النار في جسده الذي التفحته لسعة الفقر والإقصاء و التهميش. و شعب أراد الحرية ، و التملص من السيطرة التي أحكم قبضتها " بن علي" و هو على كرسي الرئاسة الذي احتكره و مارس بموجبه كل أنواع التشدد و الخناق على شعب تونس الخضراء ، بدءا من منع الحجاب و تحديد أوقات الصلاة برخص و سن معينة ، مرورا باستغلال النفوذ لتمرير صفقات لحساب حرمه المصون و أفراد عائلتها الذين كانوا يملكون جل تونس و إن لم نقل كلها ، ما بين القصور و الفلات و الشقق الفاخرة و الشركات .... ، و انتهاء بالحرية الملغية من قواميس الدولة و تفشي البطالة و الفقر و الإقصاء الاجتماعي و التهميش ... و غيرها من مظاهر الخلل التي كان متكتما عليها بين ثنايا حكومة فاسدة تقودها تشكيلة منمقة من ديتاصورات المافيا مسهلة لمصالح الرئيس الذي احتفظ بمنصبه ما يناهز ربع قرن إلى أن فر منه كالفأر الضال لوجهته ، حتى أن استقر ببلاد الحرمين و كأنه يريد القيام بالعمرة عله بذلك يكفر عن سيئاته و يغسل بقايا درنه الذي التصق به عرق شعب التزم الصمت إلى أن فجر قنبلة خلعت الرئيس ، فدخلت بذلك "ثورة الياسمين" التاريخ من أوسع أبوابه ، لتقلب الموازين و تزيح النقاب عن المستور .الحرية ، العدالة ، المساواة ، حقوق الشعب ، كلها رهانات تصبو إليها نخبة الشباب التونسي الذي صار قدوة في البسالة و الصرامة و الفعالية في الحياة العامة ، و القابلية على تغيير الأوضاع ، و التمرد على الفساد إلى بلوغ ذروته و من ثم محوه .فجاءت هذه الثورة كثروة حقيقية لمجموع الشباب العربي بعد فترات الانتكاسة الطويلة التي كانت تعايشها الدول العربية على وجه الخصوص بما في ذلك المشرق و المغرب، و كأنها بصيص الأمل الذي وجه الأمم إلى مقاصدها الحقيقية و مكن شعوبها من زمام الأمور ، ذلك بعد طول سنوات الركود التي كانت تغلب عليها لغة الرصاص و المعتقلات، حيث كان المرء يخاف من ظله و يلتفت يمينا و يسارا لمجرد ذكره اسم الرئيس أو التحدث عن الدولة أو عن حقوق الشعب .لقد جاءت ثورة الياسمين ، "لولا أن هذا الاسم قليل على ما احتضنته هذه الأخيرة من أحداث و مواقف سترسخها الذاكرة العربية على طول القرون القادمة "، مواكبة لثورة الأسعار التي تجتاح جل دول العالم العربي ، تبعا لتقلبات السوق العالمية ، التي تنعكس على الطبقات البسيطة لا غير ، الشيء الذي ربما يحتم سلسلة من الثورات و الانتفاضات على أنظمة الحكم الحالية ، كما هو متداول بالجزائر الشقيقة أو بلاد الفراعنة الدين انتقلت إليهم شرارة المطالبة بالحقوق رغم حملات تخفيض الأسعار التي شنتها الحكومة كاحتياطات و إجراءات بدئية لتفادي شرارات غضب الشعب و ثورانه على الواقع المعيشي المهتري – و هو الشيء الذي لم يكن له أن يتحقق لولا ثورة الياسمين التي أكسبت الشباب العربي جرأة استوحاها من القهر و القمع و ثقة أقحمت بين حيثيات الطموح العربي فولدت التحدي و الصمود و عبارة بسيطة صنعت الحدث العربي و شعارات نابعة من القلب و تمكنت من اقتحام فؤاد كل تونسي وجزائري و مغربي و مغاربي و عربي – و ربما لولا انتفاضة تونس الأولى لما كان لبن علي الانجلاء بعيدا عن الحكومة التي ترسبت بعد 23 عاما من الاضطهاد _ لكن الأمر لا بد و أن يكون مقننا حتى لا يصبح التعميم مجرد تقليد آلي يقتصر على القشور فقط ، كما هو الحال بالنسبة لإضرام النار الذي بات موضة ليس إلا ، و مجرد موجة يتبدد مفعولها بعد أن تكررت محاولات الناس و تعددت دوافعهم ، فضاعت القضية وراء واحد يحرق نفسه لأسباب عائلية و آخر لأسباب مادية وغيرها من مفاتن الحياة ، التي لا تدب الحياة في الوريد و لا تؤجج الثورة بخالج الفرد. إذا كانت ثورة الياسمين قد أعطت شيئا ، فهو لصالح كل شاب سئم من الحاضر و يأمل في غد أفضل ، و إن كانت لها أي مساهمة فقد جاءت لتيسير المأمورية على الأنظمة الديمقراطية ، و ليس لنشر الفتنة أو الحروب الأهلية و تأجيج الصراع بين الطوائف و التيارات الحزبية و نشر الصخب و الفوضى بين صفوف الشعوب العربية ، و إن كانت واقعة البوعزيزي قد جاءت كفاتحة خير على الشعب التونسي الذي كسب نفسه مقابل روح هذا الشاب ، فربما تكون حوادث الهوس و الهستيريا المنتشرة بين القلة الرعاع الدين يحسبون أن إضرام النار في الجسد حل ناجح و وسيلة للانقلاب اكبر ضياع للشعوب من نواحي أخرى مادامت هده الممارسة لا تحرك ساكنا بقدر ما نشعل فتنة بين الناس و تلقي بزمام الأمور الحقيقية بعيدا عن مساعيها الأساسية . إن التغيير رهبن بالعنصر البشري باعتباره المفكر و المقرر و المنفذ ، و الثورة ليست حكرا على شريحة أو حزب أو تيار فكري أو سياسي كعين ، هي اكبر من ذلك بكثير ، فالمناهضة بالحقوق و السعي وراء الأفضل عملية تتداخل فيها التداعيات بالأسباب و تتمازج و إياها النتائج بالحلول ، و مدام الشعب يسعى إلى التغيير فلابد منه أولا أن يدرك مكامن النقص و يسعى إلى تغييرها و أن يتملك من البديل قبل انب يفرط فيما لديه ، و ليس على الشباب العربي الانسياق وراء الرؤى القاتمة التي يعمل على تمريرها بعض من لهم مصلحة في التفرقة العربية لان التكامل في سبيل خلق وحدة عربية و امة إسلامية هو أقوى و أسمى رهان تصبو إليه الدول العربية و تخشى تحققه نظيرتها الغربية .