تستقبلنا الريح , و قد تودعنا . يتطعم الفجر برائحة الخبز , يحمر الغروب بين يدي الغريب . يتوه الاسم في كينونة الشيء و شاعرية اللاشيء , و تفضح الهوية نفسها ... لكن الأكيد أن النشيد يحملنا أبعد من الكلمات إلى المعنى , الذي يلخص القصة و الواقع العام في كل ما هو شخصي و ذاتي . هكذا درويش , كتب على السراب ليعيش ... ليتفتح الشعر على نفسه و على التفاصيل الدقيقة للجمال , لنستكشف ثوران الروح و هدوئها , عبر مجموعة من المواقف و الأحاسيس جسدت كل ما هو نبيل و ملحمي . فوق المادة , و بأسلوب دافئ يميل إلى السرد في أغلب الأحيان , ارتقي بالمألوف ليصبح حكاية و أنشودة ... و في هذا النسق , تتزامن تيارات الهواء مع دقات القلوب , و يرتبط الزيتون و الصحراء بجنون القصيدة . لنعلم كم هو الشعر جميل , و كم هي الحياة مظلمة من دونه. و نحن نقرأ , نستطيع تمثيل المشاهد و التناغم مع دواتنا دون المساس بجوهر الشعر , أو الانحراف عن الأسئلة الكبرى التي تكسر صمت الشاعر . و لأنها الكل و نحن فقط نتقمص انطباع أحد الشخصيات , تسكنك قصيدة محمود درويش و تذكرك بنفسك و بما حولك , و بالكثير لينبض قلبك ... و تبقى إنسانا . إحياء للغة أولا , و انتصارا للحظات الإنسانية الحاضرة في ذاكرتنا و أمام أعيننا ثانيا... و بالتميز , و من بعد لآخر , و صل مع الشعر إلى أسمى مراتبه . بدماء جديدة و أسلوب خطابي قوي جعل الماضي و المستقبل يقتسمان جسد الحاضر , لتترابط مصائر الأزمنة مع مصائر البشر , و يصبح الالتزام بالقواعد مسألة نسبية خاضعة للوضع و الحاجة . و لعل مماثلته بين الوطن و المنفى و الحياة و الموت من نافدتي الحضور و الغياب , تكشف حرصه على الإخلاص للقصيدة , و إلى باطنه الصافي و روحه الجريحة . و هو ما يجعل تجربته الاستثنائية بصدقها و إحساسها المرهف , تقرأ و تغنى , و تسطر بأكثر من لون , و في أكثر من مكان ... لهذا , كان من النبل و الإنصاف علينا كقراء , التصريح بأن محمود درويش جاهد ليسمو بالقصيدة إلى الأفق الإنساني الذي يمثلها , بعيدا عن البلاغة السياسية و العقائدية التي تشبع بها الشعر الحديث . و القول بأنه كان يمثل فكرا أو مدرسة ما , يضع الشاعر في غير محله . لأنه حين كتب , شرح أناي و أناك و أناه , و منفاه , و الوطن بكل رمزيته , و الطفل الظاهر الخفي , و الآخر المغاير في فكره الشمولي . كتب درويش لتبقى القصيدة في صورتها , و ليكون هو شاهدا مختلفا على الأحداث, و قبل أن ينام ترك نفسه مودعة فينا, و دون حضوره في يومنا العابر كشموع ليلة الحب . ليبقى الشعر حيا , و نحن أحياء .