جرت العادة، عندما يواجه 'بلد ما' ازمة خطرة، داخلية او خارجية، تهدد وجوده واستقراره، يخرج رأس النظام فيه لمخاطبة مواطنيه، مباشرة او عبر شاشات التلفزة، لاطلاعهم على مخططات حكومته لمعالجتها، وشرح الخطوات التي سيتخذها في هذا المضمار. سورية تواجه حالياً انتفاضة شعبية، انطلقت شرارتها الاقوى من مدينة درعا الجنوبية، وامتدت ألسنة لهبها الى مدن وبلدات اخرى في الوسط والشمال، طالب المحتجون خلالها بالاصلاحات السياسية، واعلاء سقف الحريات، فجاء رد الحكومة فورياً باطلاق النار بهدف القتل، فسقط اكثر من اربعين شهيداً في يوم واحد فقط. الشعب السوري الوطني الشهم، صاحب التاريخ الحضاري العريق لا يستحق هذه المعاملة من حكامه، فقد صبر اكثر من اربعين عاماً على امل ان يأتيه الفرج، ويرى بلاده واحة من الازدهار والتآخي والعدالة والعيش الكريم، ولكن نفد صبره في نهاية المطاف ولم يجد وسيلة اخرى يعبر فيها عن مظالمه المتراكمة غير النزول الى الشوارع ومواجهة رصاص الطغاة بشجاعة واباء. ناشدنا الرئيس بشار الاسد من هذا المنبر اكثر من مرة، ومنذ عدة سنوات، بان يستمع الى نصائح الشرفاء من ابناء شعبه، وان ينفذ وعوده بالاصلاح الشامل، خاصة ان الشعب يحبه ويثق بحسن طويته، ولكنه لم يفعل للأسف الشديد، ربما لعدم القدرة، او اعتقاداً بان هذا الشعب لن يقدم على الثورة، وسيستمر في قبول اهانات الاجهزة الامنية واذلالها. بالأمس خرجت علينا الدكتورة بثينة شعبان مستشارة الرئيس في مؤتمر صحافي، تحدثت فيه عن العديد من الخطوات الجديدة التي سيقدم عليها النظام تلبية لمطالب الشعب السوري 'المشروعة' في الاصلاح السياسي. حيث بشرتنا بان النظام 'يدرس' الغاء حالة الطوارئ، و'يدرس' وضع قانون جديد للاعلام، و'يدرس' قانوناً للاحزاب. السؤال الذي يطرح نفسه بقوة اولاً: هو عن عدم مخاطبة الرئيس بشار الاسد للشعب السوري بنفسه، وترك هذه المهمة الى الدكتورة بثينة، وليس رئيس الوزراء او وزير الداخلية او حتى الخارجية، وثانياً: هل هذا الوقت هو وقت دراسة قوانين، ام هو وقت التنفيذ الفوري لامتصاص غضبة الشعب، وتهدئة الاوضاع، وتجنب الانفجار الكبير الذي قد يغرق سورية في حمامات دماء لا يعلم إلا الله متى تتوقف؟ الشعب السوري سمع كثيراً مثل هذه الوعود بالاصلاح من الرئيس نفسه، طوال السنوات العشر الماضية، خاصة اثناء المؤتمرات الحزبية، او في دورات افتتاح مجلس الشعب، ولكن ايا من هذه الوعود لم ينفذ، ربما لانها مازالت قيد الدراسة. ولذلك لا نعتقد ان وعود الدكتورة بثينة سيكون لها اي اثر ايجابي في اوساط الشعب، فاذا كانت وعود الرئيس لم تر النور عملياً، فهل سيكون حال وعود السيدة بثينة مختلفة؟ ' ' ' المسؤولون السوريون يقولون انهم يرفضون الاقدام على اي خطوات اصلاحية تحت ضغوط الشارع، وعبر مظاهراته الاحتجاجية، وهذا منطق يعكس 'مكابرة' ستودي بأهلها الى الهلاك حتماً، لان الحاكم الذكي هو الذي يلتقط اللحظة المناسبة، ويتحرك فوراً لاطلاق مسيرة الاصلاح، ويتجاوب مع مطالب المحتجين دفعة واحدة، هكذا فعل العاهل المغربي في خطابه الذي وجهه الى شعبه متعهداً فيه باصلاحات دستورية كاملة، وهكذا فعل السلطان قابوس بن سعيد عندما حل الوزارة وطرد المستشارين، وقرر وضع دستور جديد للبلاد. كان جميلاً ان نسمع السيدة بثينة شعبان تقول ان مطالب الشعب بالاصلاح 'مشروعة' فاذا كان الحال كذلك، فلماذا اعتقال المئات من السوريين والزج بهم في السجون لسنوات دون محاكمات لانهم طالبوا بأقل كثيراً مما طالب به المحتجون المنتفضون في درعا والمسجد الاموي بدمشق وباقي المدن السورية الاخرى؟ واذا كان تحسين معاملة المواطنين السوريين في المطارات والمنافذ الحدودية السورية هو من بين القرارات التي اعلنت السيدة شعبان عن البدء في تنفيذها فورا، فان السؤال هو عن اسباب اهدار كرامة هؤلاء طوال السنوات الاربعين الماضية، واذلالهم من قبل اجهزة امن قمعية تتلذذ في تعذيبهم نفسيا وجسديا، وتبتزهم ماليا؟ رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان قال انه نصح الرئيس السوري بضرورة اجراء اصلاحات اقتصادية وسياسية واجتماعية بسرعة، والافراج عن المعتقلين السياسيين، ولكن نصيحة هذا الرجل الحليف والصديق لسورية لم تجد آذانا صاغية اسوة بنصائح الكثيرين مثله من محبي هذا البلد. نخشى على سورية من عناد اهل الحكم فيها، مثلما نخشى عليها من اجهزة قمعية امنية ما زالت تتبع عقيدة جهاز المخابرات السري السوفييتي البالية التي لم تحم النظام بل ساهمت في اسقاطه وتفتيت الامبراطورية السوفييتية. هذه الاجهزة الامنية المتغولة التي ترتكب المجازر في حق شعبها الطيب ستجر البلاد الى هاوية الفتنة الطائفية، وربما الى حرب اهلية تستمر لسنوات، تزهق فيها عشرات ان لم يكن مئات الآلاف، من الارواح البريئة الطاهرة. النظام في سورية لن يرحل بسهولة ويسر مثل نظيريه المصري والتونسي، رغم ان القمع هو القاسم المشترك بين الانظمة الثلاثة، فهذا نظام بوليسي لا يضاهيه الا النظامان الليبي واليمني. فلا توجد طبقة وسطى في سورية، ومنظمات المجتمع المدني جرى سحقها، ووسائل الاعلام مرتبطة بالدولة وتحكمها عقلية الحرب الباردة، ولكن الشيء الوحيد المؤكد ان الشعب السوري، مثل كل الشعوب العربية الاخرى، لا يمكن ان يتراجع بعد ان انطلقت مسيرته المعمدة بالشهداء نحو التغيير الديمقراطي. الذين يطالبون بالاصلاح في سورية ليسوا عملاء امريكا والصهيونية، مثلما يطلق عليهم النظام وابواقه الاعلامية في محاولة متعمدة لتشويههم، فشهداء مدينة درعا، واطفالها الذين اعتقلهم رجال النظام، لا يعرفون اين تقع الولاياتالمتحدة، بل ان معظمهم لم يغادروا مدينتهم الى العاصمة نفسها مطلقا. ' ' ' الوقوف في خندق المقاومة اللبنانية، واستضافة امناء الفصائل الفلسطينية في دمشق بعد ان اغلقت في وجوههم العواصم العربية الاخرى كلها مواقف مشرفة، نعترف للنظام السوري بتبنيها، بل ودفع ثمن باهظ نتيجة لها، ولكننا لا نرى اي تناقض بين اتخاذ هذه المواقف، وتلبية مطالب الشعب السوري بالاصلاح، واذا كان هناك اي تناقض، فاننا نفضل ان يؤجل النظام السوري دعمه للشعب الفلسطيني وقضيته من اجل تلبية مطالب شعبه في اطلاق الحريات ومحاربة الفساد، واقامة المؤسسات التشريعية المنتخبة، وتكريس دعائم الحكم الرشيد. فالشعوب المقهورة لا يمكن ان تحرر ارضا مغتصبة، وجيوش الديكتاتوريات لم تنتصر في اي حرب خاضتها. الاسابيع والاشهر المقبلة ستكون خطيرة جدا على سورية، لان النظام فيها يقف حاليا امام خيارين، فاما النموذج الليبي حيث التدخل العسكري الاجنبي الذي قد يقود الى دولة فاشلة او التقسيم بل احتمال التفتيت ايضا، او النموذج العراقي، اي الاحتلال الاجنبي، وربما يمكن تبلور نموذج ثالث وسط بين النموذجين المذكورين. اعداء النظام السوري كثر، في الداخل والخارج، واصدقاؤه قلائل للأسف الشديد، وخاصة في داخل سورية نفسها، والحصانة الوحيدة لتجاوز كل سيناريوهات الرعب المرسومة التي من الصعب تصورها هي الدعم والالتفاف الشعبي. السؤال الاخير هو: هل هناك فرصة للانقاذ من خلال تطبيق سريع وفوري للاصلاحات؟ الاجابة بالايجاب صعبة، والامر يتطلب معجزة، وممارسات امن النظام الدموية تدفع في الاتجاهات الاخرى، نقولها بمرارة شديدة.