بقلم : سعيد البهالي منذ أقدم العصور وقبل دخول الإسلام ، اعتبرت مدينة أسفي ضمن المدن المقدسة المعروفة في العالم القديم ، فبشمال المدينة ( رأس صوليس / كاب كنتان ) توقف الرحالة المغامر حانون القرطاجي في القرن الخامس قبل الميلاد وبنى معبدا ضخما " لبوصيدون " سيد البحار والأنهار والعواصف حسب اعتقادهم الوثني ، واختياره لهذه المنطقة دون سواها لم يكن عبثيا ، حتى أن المؤرخ الإغريقي " بسودو سيلاكس " اعتبر أن منطقة رأس صوليس / كاب كنتان أشهر وأقدس مكان في ليبيا القديمة (المغرب ) ، كما أن الروايات التاريخية الوسيطية المختلفة وحتى الحديثة ( يحيى بن خلدون التونسي الاشبيلي ( ت780ه /1378م) صاحب"بغية الرواد في ذكر الملوك من بني عبد الواد (ص92) " و المؤرخ ابن عبد المنعم الحميري الصنهاجي التونسي (ت726ه/1326م) صاحب "الروض المعطار في خبر الأقطار" (صً57) و الفقيه المؤرخ الكانوني العبدي (1893/1938) في اسفي وما اليه.. ...) تتحدث عن استقرار ذرية النبي نوح عليه السلام بآسفي ، ونفس الأمر أكده المؤرخ الاسباني مارمول كربخال (القرن 16م) في كتابه "افريقيا "عندما قال أن ذرية نوح استقرت غير بعيد عن المنطقة ، وقد عثر على غرف جنائزية بونية شمال المدينة تشبه المدافن الفينيقية مما يدل على أن الإنسان القديم بآسفي مارس التدين والتعبد بأشكال مختلفة ، وقد ذكر الفقيه داود الكرامي الرسموكي ( كان حيا عام1160ه/1747م) صاحب كتاب " بشارات الزائرين عن الصالحين " والفقيه عبد الله السعيدي الرجراجي (ت1964م ) صاحب " السيف المسلول فيمن أنكر على الرجراجيين صحبة الرسول" أن جنوبآسفي / منطقة أجوز عرفت استقرار أربعة من حواريي عيسى عليه السلام قدموا من بلاد الأندلس فارين بدينهم ، وهم:" أمج وعلقمة وأردون وأرتون" ، هذا الغنى الروحي والقدسية المعروفة منذ القدم ستتعزز مع دخول الإسلام ، وقد قيل أن الإسلام دخل للمنطقة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على يد سبعة رجال صلحاء من رجراجة قابلوا النبي صلى الله علية وسلم وكلموه وكلمهم وأسلموا على يديه ، ومن تم نقلوا الإسلام إلى بلادهم جنوبآسفي ، لكن الأوثق تاريخيا والمرجح من خلال كتب التاريخ والسير أن الإسلام دخل لآسفي على يد الصحابي أو التابعي القائد الفاتح عقبة بن نافع الفهري عام 62 ه /681م وهو الذي وقف على شاطئ بحرها المحيط ودعا بدعائه الشهير" اللهم رب محمد ، لولا أني لا أعلم وراء هذا البحر يابسة لاقتحمت هذا الهول المائج لأنشر اسم مجدك العظيم في أقصى حدود الدنيا ... اللهم إني لم أخرج بطرا ولا أشرا وانك لتعلم أنما نطلب السبب الذي طلبه عبدك ذو القرنين وهو أن تعبد ولا يشرك بك شيئا " حسب ما رواه المؤرخون أمثال محمد بن علي الشطبي الصقيلي الأندلسي (ت 963ه/1555م) صاحب "الجمان في أخبار الزمان " والورثيلاني و أحمد الناصري (ت1315ه/1897) في" الاستقصا" ، وقد كان ضمن جيش عقبة بن نافع حوالي ثمانية عشر صحابيا وعدد مهم من التابعين ، وهذا شرف لهذه المدينة التي دخلها الصحابة فاتحين أو على الأقل عقبة الصحابي ومن معه من التابعين ، وذكر المؤرخ الشطبي في "مختصر الحياة " حسب ما نقله عنه صاحب السيف المسلول (ص83) أن جماعة من صالحي قوم نبي الله يونس عليه السلام كانوا يتعبدون في كهف على شاطئ بحر آسفي ولقوا عقبة بن نافع الفهري وسلموا عليه ، بالإضافة إلى الرواية الشعبية المتداولة بالمنطقة والتي تقول أن نبي الله دانيال أحد أنبياء بني إسرائيل مدفون جنوبآسفي وهو المعروف بسيدي دنيان ، ، وقد ترك عقبة بن نافع صاحبه شاكر بن عبد الله الازدي لينشر الإسلام بالمنطقة ، وتحول مقامه إلى رباط يعمره الصالحون حتى قيل أنه أول وأقدم رباط بالمغرب ، ولسبب ما جعلها المؤرخ عبد الرحمان بن خلدون (732 ه/808 ) في " مقدمته" ضمن مدن الإقليم الثالث حسب تقسيمه للكرة الأرضية وهذا الإقليم مشهور بالتدين والوحي وبعثة الأنبياء ، ولسبب ما ربط ابن بطوطة في رحلته بين اسفي ومكة المكرمة في قصة الشاب حسن وحلمه للعودة الى أمه باسفي ،وقد ترك لنا الرحالة المؤرخ أبو العباس أحمد بن الخطيب القسمطيني (المشهور بابن قنفذ) ( 740ه /816ه) وصفا رائعا لهذا الرباط الذي يعقد فيه الزهاد والعباد من مختلف نواحي المغرب مؤتمرهم السنوي فقال : "ولقد حضرت مع جملة من هذه الطوائف مواطن عدة ، منها زمان اجتماع فقراء المغرب الأقصى على ساحل البحر المحيط ، جوف إقليم دكالة بين بلد آسفي وبلد تيطنفطر ، وكان الاجتماع في شهر ربيع الأولى المبارك الأسعد الأنور سنة تسع و ستين وسبعمائة ( 1367 م) وحضر من لا يحصى عدد من الفضلاء ، ولقيت هناك من أخيارهم وعلمائهم وصلحائهم ما شردت به عيني بسبب كثرتهم ... ورأيت في ذلك الجمع العظيم والمشهد الجسيم غرائب وعجائب لا يرى مثلها أبدا لتغير الأحوال بعد ذلك .." وقد وصف ابن الزيات التادلي )ت 627 ه / 1229 م ( في كتابه "التشوف إلى رجال التصوف " مشاهد كثيرة ومثيرة عن هذا الرباط وأهله ودوره مما يدل على مكانته وبالتالي مكانة آسفي الروحية في العهود الماضية ، ويكفي أن العلامة أبو الإسعاد عبد الحي الكتاني الفاسي (1888/1962م ) قد وصفه بكونه أشرف وأقدس بقعة بناحية مراكش ، وبالإضافة إلى ابن قنفذ القسمطيني وابن الزيات التادلي ، فقد زاره مؤرخون كبار أمثال الأديب الوزير لسان الدين ابن الخطيب ) 713 ه / 776 ه ( والمؤرخ العبدري .. كما كان يزوره ملوك المغرب ويخصون مريديه بظهائر التوقير والاحترام ، وغني عن البيان الدور الجهادي والريادي لهذا الرباط وأهله في مواجهة الدولة البورغواطية المنحرفة ونشر الإسلام في صفوف القبائل المصمودية ، وما انعقاد الملتقى الوطني والدولي الأول والثاني لمنتسبي التصوف( لقاءات سيدي شيكر ) إلا دلالة واضحة على المكانة الروحية والتربوية التي لعبتها رباطات آسفي وعلماؤها وزهادها على مر التاريخ ، وما قيل عن رباط شاكر يقال عن رباط الشيخ الصالح أبي محمد صالح ، حتى قيل إن آسفي قد شهرها شيئين ميناؤها ورباطها ، وغني عن البيان ما لعبه هذا الرباط ومؤسسه في إنشاء ركب الحج المغربي وإحياء فريضة الحج بالمغرب بعد ما أفتى "علماء " المغرب والأندلس بسقوط هذه الفريضة عن أهل المغرب بسبب الخوف وانعدام الأمن في الطريق ، وقد بلغ عدد الزوايا / المحطات بين أسفي ومكة المكرمة حوالي ست وأربعين زاوية ومحطة ، ولمعرفة المكانة السامية التي تبوأها علماء وشيوخ آسفي نورد هذه الأبيات للإمام شرف الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد البوصيري ( 608ه/694ه) صاحب البردة يمدح فيها الشيخ أبي محمد صالح : قفا بي على الجرفاء من جانب الغرب ففيها حبيب لي يهيم به قلبي قريب إلى سري بعيد مرامه فنيت به وجدا على البعد والقرب إذا هبت النكباء من ترب داره تعطرت الأكوان من ذلك الترب يخيل لي في كل شعب سلكته بأن شعيبا قام من ذلك الشعب حكى صالحا في قسمة الماء بينهم وان كان منها صالح كامل الشرب أبو محمد غوث الوجوه بأس له المعالي أعلى عالية الرتب إمام غدا رطبا لسانه نذكره على أنه اذكر من المندل الرطب وما أنا من دكالة غير أنني نسبت إليهم نسبة الصدق في الحب كنسبة سليمان لبيت نبيه وما كان منهم في قبيل ولا شعب جزى الله ملة أخرجتهم من الناس إخراج الجبوب من اللب وقد اشتهرت آسفي برباطاتها وخلواتها من ذلك رابطة تامرنوت على ساحل البحر ، وهو مسجد مبارك كان يتعبد فيه الشيخ أبي محمد صالح ((550ه/ 631 ه) قبل بناء رباطه ، وخلوة الشيخ أبي عبد الله محمد بن سليمان الجز ولي ( ت870ه/1465 ) ، وهذا الرباط / الخلوة هي موضع تعبده لمدة تزيد عن أربعة عشرة سنة وتخرج على يديه آلاف المريدين الذين كان لهم الدور الفعال في نشر قيم الإسلام ومقارعة المحتل البرتغالي ، و"رباط أجوز" جنوبالمدينة على ساحل البحر قال عنه المؤرخ أبو عبيد عبد الله البكري(1040م/1094م) في مسالكه " ... وهو رباط يعمره الصالحون " ، ولعل في شهادة العلماء والمؤرخين والرحالة الذين زاروا المدينة في مراحل مختلفة عن رباطاتها و صلاح أهلها وقدسيتها دلالة واضحة على مكانتها الروحية عبر التاريخ ، فهذا الرحالة المؤرخ ابن قنفذ القسمطيني يصف هذا البلد بكونه : " يرده أهل الله تعالى ، ورأيت هناك الكثير من الأخيار " وقال عن المدينة في شهادة تاريخية أصيلة : " إن أرضها تنبت الصلحاء كما تنبت الأرض الربيع " ، ووصفها الأديب الوزير لسان الدين ابن الخطيب بقوله :" لطف حفي ، ووعد وفي ، ودين ظاهره مالكي وباطنه حنفي ، الدماثة والجمال ، والصبر والاحتمال ، والزهد والمال ...." ويقول عن باديتها : " و بها الكثير من الصالحين وأولي الخير وأرباب التلاوة " بل ويصفها بأعمق ذلك حين يقول : " و بها مسحة من قبول الله " ويضيف عن المدينة : " وهذا البلد فسيح ، طيب الهواء ، كريم التربة ، خصيب الجناب وأهله أولوا خيرة وجنوح إلى الصلاح "،أما القاضي الأندلسي مطرف بن عميرة المخزومي(1186م/1256م) فيصفها بكونها : " أخصب الأرجاء وأقبلها للغرباء " ، وقال عنها الفقيه المؤرخ أحمد الصبيحي السلاوي (1882 /1944) ناظر أحباسها : " أهل آسفي أهل دين متين ، ودماثة أخلاق ، يألفون ويِلفون " ، أما الوزير الأديب الشاعر محمد بن إدريس العمراوي(ت1296/1879م) فقد قال عن أهلها : إن لم تعاشر أناسا خيموا آسفي فقل على عمر قد ضاع وا أسفي أما شهادات الرحالة والمؤرخين الغربيين فنذكر شهادة المراقب المدني الفرنسي " أرمان أنطونا " ألذي وصفها في كتابه "جهة عبدة" بكونها أرض الألف ولي ، واعتبرها الرحالة الطبيب الانجليزي " آرثر ليرد" الذي زارها عام 1872 بكونها إحدى المدن المقدسة بالمغرب ، وتكاد تكون من المدن القليلة بالمغرب التي لا يوجد بها ملاح خاص باليهود دلالة على تسامح أهلها وتواضعهم وسمو دينهم ، وكما أن المدينة مقدسة لدى المسلمين فهي أيضا لها قدسيتها لدى اليهود باعتبار وجود عدد من "أولياء " هذه الطائفة ، وقد استقبلت المدينة عشرات الأسر الأندلسية ( مسلمين ويهود ) الفارين بدينهم من محاكم التفتيش الصليبية ، معبرة بذلك عن أسمى قيم التسامح الإنساني والانفتاح الحضاري ، حتى أن الفرنسي " ج موكيت " وصفها بأنها "مدينة صغيرة يسكنها جميع أصناف الناس من مسلمين ومسيحيين " . على طول الساحل الأطلسي المحاذي للمدينة نجد ظاهرة ملفتة للنظر تتمثل في أضرحة العشرات من الأولياء الذين يعتقد أن بعضهم مجاهدون تصدوا للاحتلال الأيبيري ، فإذا كان الاحتلال البرتغالي للمدينة ( 1508 1541 ) قد حاول طمس وتخريب المعالم الحضارية والدينية والعمرانية للمدينة من خلال إجلاء الفقهاء ونفي العلماء وتخريب المساجد ( المسجد الأعظم ، مسجد رباط أبي محمد صالح ، المدرسة العلمية ...) فانه شكل كذلك فرصة تاريخية للقبائل المجاورة كي تجاهد لتدافع عن الدين والبلاد والعباد ، واستقطبت المنطقة آلاف المجاهدين والمتصوفة والمثاغرين والشرفاء من الغنيميين ورجراجة والسعديين ... وظهرت أسماء أعلام سطرت أروع ملاحم البطولة والفداء والجهاد أمثال السادة : الحسن بن رحو الغنيمي ونجله عبد العزيز الشيخ ، وعبد الرحمان مول البركي الغنيمي وعبد الرحمان مول البركي السباعي وبوشتا الركراكي وعبد الكريم الركراكي وعبد الكريم الصنهاجي وعبد الله بن ساسي والغازي بنقاسم وعلي بن كرارة ...... ولعل المطلع على قائمة الزوايا الموجودة بآسفي وباديتها يدرك بما لا يدع مجالا للشك المكانة الروحية الهامة لهذه المدينة ، فمن زوايا رجراجة وزوايا الغنيميين والزاوية الكانونية والكراتية والقادرية والناصرية والهذيلية والبوسونية والوزانية والدرقاوية والمصلوحية والتيجانية والعيساوية والحمدوشية والجزولية والماجرية والبدوية والجيلالية .... بالإضافة إلى العشرات من الأضرحة ومقامات الصالحين ، هذه الزوايا والرباطات لعبت أدوارا مهمة دينية وسياسية واجتماعية حيث أبقت على الإسلام حيا في قلوب الناس ، ونشرت العلم والمعرفة ، وأطعمت الطعام ، وأصلحت بين المتخاصمين ، وآوت الغرباء ... واعتبرت آسفي عبر تاريخها الطويل عاصمة للتصوف المغربي إذ منها خرجت ثلاث طرق صوفية كبرى تكاد تكون عالمية ، هي : *الطريقة الماجرية التي أسسها الشيخ أبي محمد صالح . * والطريقة الجزولية التي أسسها الشيخ محمد بن سليمان الجزولي . * والطريقة الغنيمية التي أسسها الشيخ الحسن بن رحو الغنيمي . كما أن المدينة أنجبت على مر تاريخها المئات من العلماء والمجاهدين والفقهاء والعباد والزهاد رجالا ونساء ، و الكثير من العائلات العلمية العريقة ،والذين برزوا في مختلف مناحي العلم والمعرفة ولولا مخافة التطوال لأتينا على ذكر العشرات منهم وانتاجاتهم المعرفية وإسهاماتهم الإنسانية فنافست بذلك آسفي مدنا علمية أخرى كفاس ومراكش وسلا ... فاستحقت عن جدارة أن تكون "حاضرة البحر المحيط " كما وصفها بذلك العلامة عبد الرحمان بن خلدون .