عرف الشعر العربي عبر تاريخه أبوابا متعددة، كان الشاعر يتناول أغلبها ولكنه كان يبدع في بعضها أو أحدها ليصبح مجال شهرته وصيته. هذه الأبواب شملت الغزل والحماسة والاستعطاف و الهجاء و المديح والرثاء و الحكم، ويعتبر الرثاء من أهم هذه الأبواب قيمة أدبية وإبداعية. وقد سجل الأدب العربي عبر تاريخه مرثيات متعددة، إلا أن أصدقها وأبلغها أثرا في الوجدان تلك التي رثى فيها شعراء أحد أبنائهم أو أحد إخوانهم وأشهرها قصيدة رثاء الخنساء لأخيها صخر، وقصيدة رثاء ابن الرومي لابنه الأوسط التي يبدأها مخاطبا عينيه: بكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي **** فجودا فقد أودى نظيركما عندي توخى حمام الموت أوسط صبيتي **** فلله كيف اختار واسطة العقد إلا أن الرثاء الذي خص به الأستاذ دهنون ابنه الراحل العزيز والذي نشرته جريدة "لواء أسفي" في عددها الأخير يعتبر في نظري مرثية المراثي التي عرفها الأدب العربي على الإطلاق، وأصدقها وأبلغها أثرا في تحريك لواعج الكمد الدفين في أعماق الوجدان. لم أستطع قراءة نص المرثية كاملا مرة واحدة إلا بعد انصرام يوم كامل، وأنا اقرأها فقرة فقرة، وفي كل فقرة أفسح المجال لفيض مدرار من الدموع كاللجين تتقاطر دون أن تسيل. لم أبك يوم تشييع جثمان الراحل ، فقد كان أثر الصدمة قويا خلق لي غصة في حلقي، وأصبح دمعي عصيا عن النزول، إلا أن صدق المرثية أبكاني البكاء النحيب وفجر من مقلتي الدمع الصبيب، صدق المرثية انفطرت له شغاف فؤادي وتمزق من هوله نياط كبدي. قد يقول قائل إن الفقيد العزيز محمد كريم تربطني وإياه آصرة الدم و القرابة، إلا أنني أيقنت من قوة المرثية و أثرها البليغ في الوجدان عندما التقيت صديقا ركب سيارتي والتقط الجريدة التي كانت معي، كان يتصفحها ، لم أوجهه إلى نص بعينه، وصمت برهة ليلتفت إلى وعيناه مغرورقتان بالدمع ليقول لي لا أعرف هذا الأب ولا الابن الراحل ولكن صدق الكلام الوارد في نص المرثية فتت أحشائي و مزقها. كلما أعدت قراءة المرثية أبكي سواء كان لدي رصيد من الدمع أو نضب معينه، إذ ذاك يصبح البكاء غصة تمزق الجوانح والحنايا. إن نص رثاء الأستاذ دهنون لابنه الراحل قرة العين سيبقى إبداعا خالدا صادقا نابعا من أعماق الوجدان المكلوم، وهو في نظري مرثية المراثي التي لم يسبقها نظير عبر تاريخ الأدب العربي. محمد كريم زين الشباب الأبرار وكوكب من كواكب الأسحار القصيرة المسار، وهلال أيام لم تتح له فرصة الإبدار و السرار، فقد عجل الخسوف عليه قبل أوانه واستله من بين أترابه وأقرانه كالمقلة استلت من بين الأشفار. ماذا عساي أن أختم به هذه اللواعج سوى الابتهال إلى الهه العلي القدير أن يلهم الأب المكلوم و الأم الرائعة الجريحة الصبر و السلوان، وأن يشمل الراحل العزيز برحمته الواسعة شهيدا وطيرا من طيور جنة الرضوان. السرار : عندما يصير الهلال بدرا.