"وكما أكدنا على ذلك في خطاب العرش، فإننا حريصون على أن يتمخض هذا القانون (قانون الأحزاب) عن توافق إيجابي يسمو به إلى أعلى الدرجات، وعن تشاور واسع وبناء، يجسد غيرتنا على هيآتنا السياسية، ونبذنا للتحامل المجاني عليها، أو التنكر الرخيص لها، فكل الأحزاب الوطنية قد ساهمت، سواء من موقع الأغلبية أو المعارضة، في توطيد صرح الدولة الحديثة للحق والمؤسسات، في نطاق الملكية الدستورية". من خطاب جلالة الملك بمناسبة افتتاح الدورة البرلمانية أكتوبر 2004 بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس كما ظهر ذلك خلال الأسبوع الماضي، يحدث أن يقود سياق بعض الأحداث والمواقف، إلى إطلاق بعض الأحكام والتقييمات بشأن الأحزاب السياسية وأدوارها وعملها وتمثيليتها. ويبدو أن الانسياق مع سياق الأحداث وتفاعلاتها يمكن أن يفضي إلى استنتاجات وأحكام مطلقة مجانبة للصواب وغير واقعية، وإن تجنب الوقوع في مثل هذه الأخطاء يتطلب، بالضرورة، التحلي بالكثير من بعد النظر، والرصانة في التحليل والدقة في قراءة الأحداث، وبعيدا عن ردود الفعل السطحية والمتسرعة. هذا، علما بأن موضوع الأحزاب السياسية لم يعد (ظاهرة) حديثة أو طارئة، بل هو جزء من تاريخ المغرب الحديث، وفي هذه السنة بالذات يحق لبلادنا أن تخلد الذكرى 60 لصدور ظهير الحريات العامة، الصادر بتاريخ 15 نونبر سنة 1958، والذي كان بمثابة القانون المنظم لتأسيس الأحزاب السياسية والجمعيات، وإصدار الصحف والنشر. وبالمناسبة، نسارع إلى القول بأن الأحزاب السياسية، وخاصة الجدية منها، هي من المجتمع ومن أجله وجدت، ولذلك فمن الحق الطبيعي لهذا الأخير أن يتتبع أداءها، ومدى التزامها ببرامجها وأهدافها، وبالشفافية والحكامة في تدبير شؤونها التنظيمية وعلاقاتها مع المحيط المجتمعي، علاوة بالطبع على حق كل مواطن ومواطنة في التعبير عن الرأي والانتقاد البناء لعمل هذه الأحزاب التي يبقى الانتماء إليها اختيارا وقناعة. كما أنه من الضروري كذلك التذكير بأن تأسيس الأحزاب المغربية، في جيليها الأول والثاني، كان من مجهودات وعطاءات الشعب المغربي، سواء خلال مرحلة استكمال تحرر البلاد، أو في فترة وضع أسس بناء الدولة الحديثة، أو مرحلة استكمال الوحدة الترابية والبناء الديمقراطي، وبطبيعة الحال فالممارسة الحزبية بتنوعها، وتعدد مرجعياتها ومشاربها الفكرية، تدرجت وتطورت عبر مسار شاق وطويل. وإن كان إقرار مشروعية الأحزاب السياسية، في فجر الاستقلال، له دلالات قوية بخصوص مهام وحاجيات تلك الحقبة، من تحقيق الجلاء وبناء مؤسسات مغرب الاستقلال، ومن وحدة الأمة كأمة جديرة بالاستقلال والحرية، ومن أن المغرب لا ولن يفرط في وحدته أرضا وشعبا … إن كان كذلك فإن مهام الأحزاب، وبعد زهاء ربع قرن من التجربة والممارسة، ستعرف لاحقا دينامية كمية ونوعية، وخاصة مع انطلاق ما عرف بالمسلسل الديمقراطي وفي أجواء معركة استرجاع الأقاليم الجنوبية، فكان أن قامت الأحزاب بأدوارها الأساسية في الرهانين معا، أي رهان استرجاع الوحدة الترابية ورهان بناء قواعد الخيار الديمقراطي، وذلك بواسطة عملها التنظيمي والتوعوي الذي مكن من اجتذاب وحشد الطاقات الشعبية من مختلف الأوساط والشرائح، علاوة على الأدوار التنويرية التي اضطلعت بها النخب الحزبية المثقفة بين صفوف الطلبة وفي رحاب المؤسسات الجامعية والجمعوية، إلخ … وبهذا الحضور وهذه الأدوار الحيوية، ومع بداية الألفية الثالثة، فإن الأحزاب السياسية المغربية انتقلت إلى مرحلة جديدة في عملها ووجودها، وفي موقعها كشريك في مواجهة التحديات الكبرى للمرحلة، ودعم وتعزيز مسار البناء الديمقراطي والتنموي، وفي هذه المرحلة أضحى واضحا بأن موقع الأحزاب السياسية أصبح أوسع وأكبر من أن ينظمه قانون الحريات العامة الصادر سنة 1958، والمعدل سنة 1973، فكانت المبادرة الملكية بدعوة البرلمان إلى إقرار قانون جديد للأحزاب، خلال افتتاح الدورة البرلمانية (أكتوبر 2004)، حيث جاء في خطاب جلالته: "ونود أن نعرب عن اعتزازنا بإجماع كل مكونات الشعب المغربي حول التوجهات الاستراتيجية، التي حددناها في خطاب العرش، كما نشيد باستعداد الأحزاب السياسية للانخراط فيها، وتجاوبها مع حرصنا على نهوضها بدورها الأساسي، في التوعية والتأطير، وتكوين نخبة مؤهلة لتدبير الشأن العام ورفع التحدي المصيري، للتنمية الشاملة، بالمنهج الحضاري للديمقراطية الحقة، لذلك ارتأينا أن نركز خطابنا على تقوية دور الأحزاب، بإيجاد إطار تشريعي جديد وفعال، يستمد فيه الحزب شرعيته القانونية من مشروعيته الديمقراطية. ويأتي بإجابات جماعية متميزة عن قضايا مجتمعية عريضة، وليس تلبية لمطامح شخصية أو فئوية ضيقة". هكذا، ووفقا لهذا التوجه التحديثي، صدر أول قانون خاص بتنظيم الأحزاب السياسية ( رقم 04. 36 )، بعد مصادقة مجلس النواب ومجلس المستشارين عليه، وبعده كان هناك الخطاب الملكي الممهد لدستور 2011 ( خطاب 9 مارس ) الذي وضع المسألة الحزبية ضمن سبعة مرتكزات للدستور، بالتنصيص على : " تعزيز الآليات الدستورية لتأطير المواطنين، بتقوية دور الأحزاب السياسية في نطاق تعددية حقيقية، وتكريس مكانة المعارضة البرلمانية، والمجتمع المدني". وفي فصله السابع، يدقق الدستور بأن الأحزاب: "تعمل على تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي، وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية، وفي تدبير الشأن العام، وتساهم في التعبير عن إرادة الناخبين، والمشاركة في ممارسة السلطة، على أساس التعددية والتناوب، بالوسائل الديمقراطية، وفي نطاق المؤسسات الدستورية". بكل هذه التراكمات والتدابير التنظيمية والسياسية أضحت المؤسسة الحزبية مؤهلة لاحتلال موقعها الاستراتيجي في هندسة المؤسسات الدستورية للبلاد، كما أن الأحزاب تعد اليوم شريكا لباقي المؤسسات، التدبيرية والسياسية والتمثيلية، في مختلف البرامج والسياسات الرامية إلى النهوض بالمجتمع وتأهيله لمسايرة قطار التقدم والحداثة والنماء، لعل أن احتلال الأحزاب لهذا الموقع، في النسق السياسي المغربي، فيه تجسيد ملموس لثمار الخيار الديمقراطي، وفي نفس الآن هو آلية من آليات الدعم المستمر لتقوية الديمقراطية وجعلها نهجا وممارسة وسلوكا لا تراجع عنه، وكما يتجلى من قراءة تجارب البلدان المتقدمة، فإن الديمقراطية كما هي غاية، هي أيضا وسيلة لمواجهة تحديات العصر وأسئلته الشائكة. والمغرب مع كل ما أنجزه من خطوات كبيرة على مستوى البناء الديمقراطي والتنموي والاجتماعي. ففي هذا الظرف بالذات، فإنه يقف اليوم أمام تحديات وأسئلة ورهانات تتمثل بالخصوص في ضمان الانتصار النهائي للقضية الوطنية، والتحولات المعقدة على المستويين القاري والإقليمي، وكسب النجاح والإنجاز للمشاريع والأوراش التنموية، وتطوير الأداء على مستوى مؤسسات الحكامة والإدارة والتدبير، ويبقى أن أمضى سلاح لمواجهة كل هذه التحديات وغيرها، هو المزيد والمزيد من التقدم على طريق توسيع وترسيخ المكتسبات الديمقراطية، التي تعطي للمغرب اعتباره ومكانته المتميزة بين الدول الصاعدة، وهو أيضا توسيع وتقوية دور الأحزاب السياسية التي أناط بها الدستور مهام أساسية في مجال التأطير والتوعية والتعبئة والدفاع عن مصالح الوطن وحقوق المواطنين. والخطاب الملكي المشار إليه أعلاه هو أبلغ برهان على أهمية المساهمة التي يمكن للمؤسسات الحزبية أن تقدمها لفائدة القضايا الوطنية، إذ يضيف جلالته في هذا الخطاب، متحدثا عن الغايات المأمولة من قانون الأحزاب، قائلا: "وكما أكدنا على ذلك في خطاب العرش، فإننا حريصون على أن يتمخض هذا القانون عن توافق إيجابي يسمو به إلى أعلى الدرجات، وعن تشاور واسع وبناء، يجسد غيرتنا على هيآتنا السياسية، ونبذنا للتحامل المجاني عليها، أو التنكر الرخيص لها، فكل الأحزاب الوطنية قد ساهمت، سواء من موقع الأغلبية أو المعارضة، في توطيد صرح الدولة الحديثة للحق والمؤسسات، في نطاق الملكية الدستورية". ومن هنا يبدو أن بعض الخرجات الإعلامية أو الفكرية أو السياسية الرخيصة التي تحاول حاليا تبخيس دور الأحزاب في الحياة المجتمعية لبلادنا، ماهي سوى جعجعة عابرة قابلة للزوال، لأنه لا حياة للدول وللأنظمة وللشعوب بدون أحزاب قوية قادرة على التصدي لكل ما يمس المواطن في مكتسباته الديمقراطية، وتسعى إلى تحقيق مطامحه وترجمة همومه وانشغالاته للاستمرار في البناء الكامل للصرح الديمقراطي لبلادنا ولمشهدنا السياسي الذي يصبو إلى المزيد من التطور والرقي والازدهار من خلال مجتمع ديمقراطي ليبرالي عقلاني. وبالإضافة إلى رصيدها الشعبي والتاريخي، فإن الأحزاب السياسية تحتفظ بموقعها وبدورها كفاعل أساسي في الحاضر وفي المستقبل، وشريك في العمل وفي بلورة الاقتراحات والمبادرات التي من شأنها أن تمكن من معالجة مختلف الملفات والإشكالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والدفع بالبلاد نحو المزيد من الإنجازات والنجاحات. وفي هذا الاتجاه، وعلاوة على مهامها الأساسية المحددة في الدستور، فإن الأحزاب السياسية مطالبة اليوم بالمساهمة في ترسيخ مناخ الحكامة الجيدة، وتحفيز العمل التنموي، وتعزيز مناخ الثقة في المؤسسات، كما أنها مطالبة أيضا بالاضطلاع بمسؤوليتها الأساسية على مستوى تخليق وعقلنة المشهد السياسي والارتقاء بأداء مؤسسات الوساطة التي هي نتاج المجتمع.