لم يمنع التزام عبد اللطيف الجواهري والي بنك المغرب، الشديد الموضوعية والدقة والتحليل الصارم خلال استعراضه للمعطيات والأرقام والبيانات المرتبطة بالنمو الاقتصادي والتضخم وعجز الميزانية ومسألة استقرار الأسعار ونسبة البطالة وغيرها من النقاط التي تطرق إليها خلال الندوة الصحفية التي عقدها أول أمس الثلاثاء بالرباط على هامش الاجتماع الفصلي لبنك المغرب، من إرسال إشارات ورسائل مشفرة إلى الحكومة، باعتبار موقعه كمسؤول سام عام، من مهامه مراقبة مسار المالية العامة للدولة وحركة الاقتصاد الوطني على ضوء التقلبات الاقتصادية والمالية العالمية وفي سياق الوضعية الاقتصادية العامة للبلاد في الوقت الراهن. لا يخفى على كل ذي بصيرة وهو يتتبع إفادات والي بنك المغرب حول واقع التطورات الاقتصادية والتقلبات المالية للبلاد، أن تلك الإشارات وتلك الرسائل هي موجهة من طرف خفي إلى الحكومة، فيما يمكن اعتباره بمثابة تسجيل موقف من الطريقة التي اعتمدتها الحكومة لإعلان قرار تطبيق نظام المقايسة. خصوصا وأن قرارها حسب تعبيره هو" قرار سياسي" قبل كل شيء، و" أن الذي يجب أن يحكم الجميع في مثل هذه القرارات هو المصلحة العليا للوطن"، كما أن " تقييم القرار السياسي الحكومي لا تنويها ولا رفضا له" ليس من مهامه، بحكم أن "القرارات الصعبة ليس لها وقت مناسب". أولى تلك الإشارات إعلانه أنه لم يستشر في اتخاذ قرار المقايسة، مشددا على "ضرورة الأخذ بعين الاعتبار طبيعة الإصلاحات". ولعل هذه الإشارة تكشف لوحدها عيبا جوهريا في السياسة الحكومية الحالية وهو الاعتماد على المقاربة الانفرادية و الذي بدا واضحا بالنسبة لإقصاء كل المعنيين بالملف المالي والاقتصادي بمن فيهم والي بنك المغرب عن هذا الموضوع، مع أن هؤلاء المعنيين موجودون في الدولة والبرلمان والأحزاب والجمعيات المهنية والنقابات واتحاد المقاولات المغربية والمندوبية السامية للتخطيط ومركز الظرفية الاقتصادية والأبناك المغربية وغيرهم، الشيء الذي يؤكد أن طبيعة القرار الحكومي لم تكن اقتصادية صرفة أي بمعنى لم يكن العمل بنظام المقايسة مسألة تقنية فقط بل ارتبط بمسألة حيوية واستراتيجية وهي تقرير مصير اقتصاد بلد برمته من خلال تغيير آلية تحريك الأسعارالوطنية وربطها بالتقلبات الخارجية، في تغييب واضح لآليات التشاور مع كافة الفاعلين والمتدخلين. الإشارة الثانية تحذيره من تكرار الانزلاقات التي وقعت في ميزانية عام 2012، والتي وصلت معها نسبة عجز الميزانية العامة إلى 7.7 بالمائة، في الوقت الذي لازالت ميزانية 2014 ضمن قانون المالية الجديد، معلقا أمر إخراجه إلى النور، والذي رهن مستقبل المغرب لسنة كاملة، وما يرتبط به من مشاريع اقتصادية ذات العلاقة المباشرة بالحياة اليومية للمواطنين. الإشارة الثالثة تتعلق بالتأخير الحاصل في إصلاح صندوق المقاصة، حيث حذر من أن هذا التأخير سيدفع الاقتصاد الوطني ثمنه غاليا، مشيرا إلى أن المغرب عرف الأزمة طيلة سنوات، برغم أنه استطاع أن يحافظ على توازناته الماكرو اقتصادية، لكن وجوده " في منطقة تأثرت كثيرا بالأزمة الاقتصادية"، أصبح يفرض التعجيل بتنفيذ الإصلاحات، والتي غالبا ما تكون قاسية، بحيث إن عدم تنفيذها في الوقت المناسب سيكون المغرب حينها مهددا بتدخل البنك الدولي في قراره السيادي. وسيضظر إلى اتخاذ عدد من الإجراءات القاسية، وإن لم يتخذها في وقتها سيتخذ إجراءات أصعب منها، كما هو الشان بالنسبة في تأخير إصلاح صندوق المقاصة . الإشارة الرابعة، الضعف الذي أظهرته النسب والمعدلات التي عرضها والي بنك المغرب على مستوى الحد من نسبة التضخم أو الرفع من نسبة النمو الاقتصادي، برغم الحصيلة الإيجابية على مستوى نمو القطاع الفلاحي واتفاع وتيرة الأنشطة الفلاحية، وكذا على مستوى الرفع من معدلات التشغيل الضعيفة مقارنة مع تفاقم نسبة البطالة وانحفاض الطاقة الإنتاجية في المجال الصناعي، وضعف الموارد المالية العمومية في مقابل تزايد النفقات العمومية وارتفاع طفيف في الاحتياطي المالي من العملة الصعبة إلى غير ذلك من النسب والمعدلات التي تؤشر إلى أن الهاجس المركزي للدولة هو المحافظة قدر الإمكان على التوازنات الماكرو اقتصادية، في ظل تقلبات السوق المالي والاقتصادي العالمي، أكثر من أي شيء آخر في ظل الأزمة العالمية وانكماش الاقتصاد العالمي. إشارات من دون شك تزكي مواقف أحزاب المعارضة من السياسة الحكومية الحالية في تدبير المالية العمومية، وتؤكدها وجهات النظر لبعض المحللين الاقتصاديين الذين يرون أن المقاربة الحكومية في معالجة العجز المالي للميزانية وضعف النمو الاقتصادي الوطني وبطء وتيرة الاستثمار، لم تفلح في تحقيق نتائج مقنعة من شأنها بعث الاطمئنان داخل صفوف رجال الأعمال المغاربة وتعزيز الثقة لدى المستثمرين الأجانب، وتحقيق بعض تطلعات المغاربة إلى الاستقرار الاقتصادي والسلم الاجتماعي. إن وقفات والي بنك المغرب تجاه المستجدات والتطورات الاقتصادية والمالية التي عرفتها بلادنا في الشهور الأخيرة، لا تلغي مضامين التقرير الأسود الذي قدمه أمام جلالة الملك برسم سنة 2012، بقدر ما تعززها، والذي كان بمثابة دق لناقوس الخطر وتنبيها للحكومة على ضررة مراجعة سياساتها المالية والاقتصادية، لما قدمه من تشريح قاس للوضعية الاقتصادية والنقدية والمالية لسنة 2012 ، وكشف عنه من التقلص الملحوظ لهامش المناورة لدى السلطات الحكومية، فضلا عن الاختلال المتزايد للتوازنات الأساسية، واستمرار بطالة الشباب.