"إن القيام بالإصلاحات المؤسساتية الضرورية، تمنح بموجبها صلاحيات للجهات والهيئات اللا مركزية، وللمبادرات المواطنة، لتقوية مساهمتها في جعل السياسات العمومية أكثر تلبية لحاجيات وتطلعات المواطنين" من الرسالة السامية لجلالة الملك إلى المشاركين في المنتدى البرلماني الثاني للجهات بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس بنظرة سريعة يمكن لكل متتبع الوقوف على ضخامة وكثافة المشاريع والبرامج التنموية، التي يواجه المغرب تحدياتها في نطاق مساره المتميز وإنجاز مشروعه الديمقراطي، وذلك بعزم وإصرار وثبات. فبشكل جلي وواضح وملموس، تشهد مختلف القطاعات الإنتاجية وأجهزة التدبير، ذات الطابع الاجتماعي… حركية دؤوبة وشاملة لجميع المستويات الوطنية والقطاعية، وهي حركية تجسد تجاوز المغرب لأجواء التردد والانتظارية والاتكالية، والانتقال بسرعة من العمل إلى الإنجاز إلى المستوى الذي تتطلبه المرحلة. ورغم بعض الصعاب، تلاحظ نفس الحركية لدى مجموعة غير قليلة من المؤسسات العمومية، ومقاولات القطاع الخاص، بما تساهم به في تقوية الاقتصاد الوطني وتعزيز المجهود التنموي، ومن الأمثلة على ذلك، هناك حصيلة المكتب الشريف للفوسفاط، مردودية القطاع الفلاحي، التحسن الذي يعرفه القطاع السياحي، الشراكات والاستثمارات التي تنجز مع الشركاء في إفريقيا وأوروبا وآسيا… كما تأتي هذه الدينامية الإيجابية لتعزز الإنجازات التي حققها المغرب في مجال البنيات التحتية الكبرى، كالموانئ والطرق السيارة والنقل والميدان الفلاحي والطاقة، إلخ ..، وكل هذه المنجزات جعلت المغرب يبرز كدولة صاعدة، وذلك بالإضافة إلى خياره الديمقراطي الذي يضعه ضمن الدول التي تعيش عصرها. هذا بالنسبة لنتائج انطلاقة المغرب الجديدة أو الحالية، والتي تهم تنفيذ البرامج وإنجاز الأوراش الإصلاحية، ثم هناك جانب آخر لا يقل أهمية عن الوقوف على المشاريع وتتبع تنفيذ البرامج، وهو الجانب المتعلق باستكمال البناء المؤسساتي ووضع الآليات التنظيمية والهيكلية الضرورية للمرافق والمؤسسات التي أحدثها دستور 2011، ونركز هنا بالأساس إلى موضوع الجهوية المتقدمة التي يبدو أن تنزيلها الفعلي ليس بالأمر الهين، خصوصا وأن الموضوع متشعب بأبعاده وتقاطعاته المتعددة، وهو شيء طبيعي بقياس منطق تدبير المجتمعات ووضع بنيات تنظيمها. وفي تقاطع أو تماس مع الجهوية، هناك مهمة إعادة صياغة النموذج التنموي، بما يتناغم مع التطورات، ويساعد على تجاوز الاختلالات المسجلة على النموذج السابق الذي أبان عن محدوديته في الاستجابة لحاجيات المواطنين المتزايدة. وقد كان من اللافت أن الحكومة عقدت، خلال الأسبوع الماضي، اجتماعها الثالث مع رؤساء الجهات الذي خصص، حسب بلاغ لوزارة الداخلية، لتدارس الخطوات المنجزة والوقوف على الإيجابيات والعوائق، ما يعني أن الاجتماع، في حد ذاته، يعكس وعي الحكومة بأن الموضوع يستدعي تعبئة كل الجهود للتقدم وتجاوز المرحلة التأسيسية نحو التنزيل العملي للنصوص والمراسيم التنظيمية الصادرة التي تمت المصادقة عليها من لدن مجلس الحكومة. إن إنجاز هذه المهمة يصطدم، من دون شك، بصعاب متعددة، منها ما يرجع لتداخل القضايا المشتركة بين الجهات ومجموعة من الوزارات، ومنها الحاجة الملحة للموارد البشرية ذات الكفاءة، سيما بالنظر إلى كون القانون التنظيمي الحالي للجهات يعتبر أكثر تقدما بالمقارنة مع سابقه، وبالنظر إلى الآمال المعقودة على نظام الجهوية المتقدمة كآلية لتقوية وتسريع مسار التنمية المستدامة، وضمان العدالة الاجتماعية والمجالية، وبهذا الخصوص لا يمكن نسيان ما جاء في الخطاب الملكي، بمناسبة افتتاح الدورة البرلمانية (السنة الماضية)، حيث أكد جلالة الملك على أن "الجهوية ليست مجرد قوانين ومساطر، وإنما هي تغيير عميق في هياكل الدولة، ومقاربة عملية في الحكامة الترابية، وهي أنجع الطرق لمعالجة المشاكل المحلية، والاستجابة لمطالب سكان المنطقة، لما تقوم عليه من إصغاء للمواطنين وإشراكهم في اتخاذ القرار". وبهذا التدقيق والتقدير من جلالة الملك، فإن الجهوية هي اليوم من العناوين الرئيسية للإصلاحات الكبرى التي دخلت فيها البلاد مع ما يعنيه ذلك من ضرورة جعلها ضمن جدول الأعمال اليومي للحكومة ولكل المؤسسات المعنية، حتى تتظافر الجهود، وحتى يساهم الجميع، كل من موقعه، في التصدي للإشكالات التي تبرز على هذا المستوى أو ذاك، وحتى يكون البناء المؤسساتي مواكبا للأوراش الأخرى، ومؤطرا ومدعما للبرامج والمشاريع الطموحة التي يتم إنجازها في مختلف القطاعات والجهات. وبعد تبني الخيار الجهوي وصدور القانون التنظيمي للجهوية في صيغته المتطورة أو المتقدمة، فقد تم قطع خطوات هامة على طريق بناء هذا الصرح الكبير، وكذا إقرار أزيد من 20 مرسوما، بل وشرعت مجالس بعض الجهات في وضع برامجها، كما حصل تقدم في حل بعض الإشكالات، لكن هناك قضايا أخرى، كتلك التي تناولها الاجتماع الذي حضره رؤساء المجالس الجهوية وأعضاء جمعية جهات المغرب بمقر وزارة الداخلية، والتي تطرح العنصر الزمني ووتيرته لتدارك الزمن والانتقال إلى المرحلة المقبلة التي أشار إليها جلالة الملك في رسالته السامية إلى المشاركين في المنتدى البرلماني الثاني للجهات، حيث قال جلالته: "أما الآن وقد تم تسطير الأهداف، وتحديد المبادئ والقواعد بوضوح، واضطلع الفاعلون بمهامهم، فإن المرحلة المقبلة ستكون حتما هي بلوغ السرعة القصوى، من أجل التجسيد الفعلي والناجع لهذا التحول التاريخي". والتحول الكبير والتاريخي هو ما يمكن بناء قواعده ب "الجهوية زائد النموذج التنموي الجديد"، ذلك لأن الجهوية المتقدمة والنموذج التنموي الجديد، الذي دعا جلالة الملك إلى صياغته، يتكاملان في أهدافهما ومقاصدهما، فإذا كانت الجهوية المتقدمة بمثابة أنجع الطرق التي تمكن من معالجة المشاكل والاختلالات المحلية والجهوية، والاستجابة لحاجيات الساكنة، فإن الدافع إلى وضع نموذج تنموي جديد هو جعل هذا الأخير مواكبا للتطورات والمستجدات، وبما يمكنه من المساهمة في التقليص من هوة الفوارق الاجتماعية والنهوض بمستوى عيش مختلف شرائح وفئات المجتمع. هذا، وعلاوة على الأهداف المباشرة، فإن هذا (الثنائي) مجتمعا، أي الهوية والنموذج التنموي، له بالفعل من الدلالات السياسية والاجتماعية ما يعبر عن إرادة سياسية قوية في جعل التحولات الإصلاحية والديمقراطية، التي عرفها ويعرفها المغرب، قائمة على ركائز قوية وأسس سليمة ومتينة، فالمادة الثالثة من القانون التنظيمي للجهوية تنص على أن "التنظيم الجهوي يرتكز على مبدأ التدبير الحر الذي يخول بمقتضاه للجهة، في حدود اختصاصاتها، سلطة التداول بكيفية ديمقراطية وحرة، وسلطة تنفيذ مداولاتها ومقرراتها بما تحدده القوانين والأنظمة الجاري بها العمل ووفقا لقواعد الحكامة الجيدة…". وتزداد القناعة بهذا التنصيص مع استحضار تأكيد جلالة الملك، في رسالته إلى المنتدى المشار إليه، على أن "القيام بالإصلاحات المؤسساتية الضرورية، تمنح بموجبها صلاحيات للجهات والهيئات اللامركزية، وللمبادرات المواطنة، لتقوية مساهمتها في جعل السياسات العمومية أكثر تلبية لحاجيات وتطلعات المواطنين". وبعد كل ما سبق يمكن تلخيص الموضوع في كون الجهوية المتقدمة تعتبر رافعة أساسية أو محورية في هندسة بناء النموذج الديمقراطي، الذي قطع فيه المغرب أشواطا مهمة، والذي مايزال يتطلب مواصلة العمل والجهود من أجل تثبيت وتقوية روافعه الأخرى التي تمتد إلى ما هو ثقافي وإلى كل مناحي الحياة، في نطاق مكونات ثوابت الهوية الوطنية للمغاربة. فبالرغم من الأشواط التي تم قطعها، على هذا الطريق، فإن المسافات المتبقية تجعل بعض الأوراش ماتزال في مرحلة التأسيس، وكذلك هو الشأن بالنسبة لورش الجهوية الذي يتطلب اليوم تسريع الخطوات، وتكثيف العمل التأسيسي، وإيجاد العلاجات الناجعة للإشكالات القائمة، وفتح أفق الثقة والنجاح أمام رهانات ما تبقى من المسافات والمحطات، وبالحرص في كل ذلك على ثقافة الحوار ومنهجية التشارك والروح الإيجابية في التعاون بين جميع الأطراف والمؤسسات، الوطنية والجهوية المعنية والمسؤولة.