"إننا على وعي تام بأن ورشا كالجهوية المتقدمة، هو مشروع يمتد على المدى البعيد، يستوجب التحلي بكثير من الحزم لرفع الجمود، واليقظة لمواجهة العقليات المحافظة، والتفاعلية من أجل التكيف والتعديل والملاءمة بكيفية مستمرة". من الرسالة السامية لجلالة الملك الموجهة إلى المشاركين في أشغال المنتدى البرلماني الثاني للجهات يوم 16 نونبر 2017 بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس في رسالته السامية، الموجهة إلى السادة المشاركين في أشغال المنتدي البرلماني الثاني للجهات، أبى جلالة الملك محمد السادس إلا أن يطرح مجددا موضوع الفوارق الطبقية والتفاوتات المجالية، وقد خص جلالته باهتمامه الكبير شريحة من أهم الشرائح المكونة للمجتمع المغربي، وهي شريحة الشباب التي لا تخفى أهميتها بالنسبة لحاضر ومستقبل البلاد. وبمنظور إستراتيجي، وإبداع خلاق، ربطت الرسالة الملكية بين المنتظر من الجهوية ومن أدوار الجماعات الترابية، وبين ضرورة الاهتمام بالشباب المغربي، والعمل على معالجة مختلف الإشكالات التي تواجهه سواء في البوادي أو الحواضر، وذلك بارتباط وثيق مع مهمة معالجة الاختلالات المسجلة في النموذج التنموي الحالي. وفي هذا الربط الجدلي دلالة واضحة على أن خيار الجهوية ليس هدفا في حد ذاته، بل هو جزء من تصور شامل لمواصلة مسار البلاد على طريق النهوض الاجتماعي والتقدم الاقتصادي، وتوفير الآليات والوسائل اللازمة لذلك. وقبل شهر ونيف فقط، أي في خطاب افتتاح الدورة الحالية للبرلمان، كان جلالة الملك قد أكد على أن الجهوية "ليست مجرد قوانين ومساطر إدارية، وإنما هي تغيير عميق في هياكل الدولة، ومقاربة عملية في الحكامة الترابية، وهي أنجع الطرق لمعالجة المشاكل المحلية، والاستجابة لمطامح سكان المنطقة، لما تقوم عليه من إصغاء للمواطنين، وإشراكهم في اتخاذ القرار، لاسيما من خلال ممثليهم في المجالس المنتخبة". ومن خلال هذا الربط نكون، على الأقل، أمام ثنائية تتمثل في الجهوية كآلية، وفي الشباب كموضوع، ولا يمكن عزل أي منهما عن سياقه وامتداداته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مما تتعاظم معه ملحاحية إنجاز المهام التي تجعل استكمال تنزيل الجهوية المتقدمة، والتصدي للمشاكل التي تؤرق الشباب المغربي، ضمن أولى أولويات المرحلة. وهناك مؤشرات وتقديرات إيجابية تفيد بأن النجاح في إنجاز هذه المهام ليس بالشيء المستحيل، لاسيما وأن الحكومة يبدو أنها واعية بالمسألة، وبأنها حريصة على تسريع وتيرة العمل والتجاوب الكامل مع مضامين الخطب الملكية. وفيما يهم قضايا الشباب، تؤكد الحكومة على لسان رئيسها، الدكتور العثماني، بأنها "وضعت سياسة شاملة ومندمجة لفائدة الشباب تقوم على تحسين شروط إدماج هذه الفئة وانخراطها في الحياة العامة" وبأن "السياسة المندمجة لفائدة الشباب، التي دعا إلى اعتمادها جلالة الملك محمد السادس، تقوم على منهجية تشاركية تهدف إلى إشراك مختلف المتدخلين في مجال السياسات العمومية الموجهة للشباب وإشراك أوسع للمجتمع المدني في تنفيذ برامج الوزارة المكلفة بالشباب". وفي ما يخص الجهوية المتقدمة، فقد صادق مجلس الحكومة، خلال شهر يونيو الأخير، على مجموعة من المراسيم تتعلق بتفعيل اختصاصات الجهات (9 مراسيم)، من أجل جعل المجالس الجهوية "تواكب التحولات التي انخرط فيها المغرب عبر تبنيه للجهوية الموسعة، وتفعيل أدوار الجهات، وخاصة في ما يتعلق بالإسهام في التنمية المحلية". وقبل ذلك، وخلال السنة الماضية، كانت وزارة الداخلية قد أعدت حزمة من القوانين التنظيمية للجهوية (22 مشروع مرسوم)، منها ما يتعلق بمسطرة إعداد برامج التنمية الجهوية، ومسطرة إعداد برنامج عمل الجماعة الترابية، وشكليات تنفيذ تسليم السلط بين رؤساء مجالس الجهات ومجالس العمالات والأقاليم ومجالس الجماعات، المنتهية ولايتهم، وتحديد شروط وكيفيات تحويل الاعتمادات المفتوحة في ميزانية الجهة، إلخ… هذا علما بأن هذه الخطوات وهذا "العزم"، الذي تبرهن عنه الحكومة، لا يعني مواجهة قضايا وإشكالات الملفين معا، الجهوية والشباب، من السهولة بمكان، أو أنه خالٍ من الصعاب والإكراهات المتعددة الأصناف والأشكال. فلم يتم تقديم موضوع خيار الجهوية المتقدمة على أنه ورش كبير، فلأنه بالفعل هو كذلك، من خلال جعل مؤسسة الجهة، وفقا للدستور، تأخذ بمجموعة من القواعد والمبادئ التي تؤمن الحقوق الأساسية للساكنة، وضمان الموارد والحاجيات للجهة، وحق الولوج إلى المرافق العمومية، وتكريس مبادئ الديمقراطية والشفافية وسيادة القانون، إلخ… وبتدقيق النظر في المهام المسندة للجهة، ولما هو منتظر منها في مجال التنمية وتعبئة الإمكانيات المحلية، والمساهمة في التضامن والتكامل بين الجهات، يُدرك الجميع بأن الجهوية تشكل التحدي الكبير الموضوع أمام المغرب. وفي موضوع الشباب وظروفه ومشاكله، لا ننسى أن جلالة الملك سبق وأن نبه إلى أن فئة الشباب ظلت محرومة من الاستفادة من التقدم الذي عرفه المغرب، إذ جدد جلالته في خطابه عند افتتاح الدورة الحالية للبرلمان، انشغاله بأوضاع الشباب، مؤكدا على أن "تأهيل الشباب المغربي وانخراطه الإيجابي والفعال في الحياة الوطنية يعد من أهم التحديات التي يتعين رفعها. وقد أكدنا أكثر من مرة ولاسيما في خطاب 20 غشت 2012 بأن الشباب هو ثروتنا الحقيقية ويجب اعتباره كمحرك للتنمية وليس كعائق أمام تحقيقها". وقبل أسابيع فقط نقلت وسائل الإعلام الوطنية، عن بعض الدراسات، معطيات ومؤشرات مقلقة عن واقع الشباب، ليس فقط في مجال التعليم والشغل والاندماج، بل أيضا في ما يخص ثقته في المستقبل، حيث تفيد هذه الدراسات بأن نسبة غير قليلة من الشباب صارت ترى فرص النجاح في التوجه نحو الخارج. من هنا يظهر حجم المجهودات التي ينبغي القيام بها من أجل معالجة هذه الإشكالات، وذلك سواء على مستوى إعمال الحكامة الجيدة، أو اعتماد منهجية الشراكة والتشاركية، أو في ما يهم تعبئة الوسائل والإمكانيات المالية والتقنية والبشرية التي من شأنها ضمان حظوظ النجاح والإنجاز، علما بأن الأمر هنا يتعلق برهانين اثنين، أي ورش الجهوية والشباب، اللذين يشكلان معا رافعة أساسية لكسب معركة التنمية والنهوض الاقتصادي والاجتماعي، وتمكين البلاد من المقومات اللازمة لمواجهة تحديات التحولات الدولية والجهوية. وما من شك في أن الاهتمام الملكي الدائم بمثل هذه الأوراش الكبرى، هو بمثابة زاد لمختلف المؤسسات الوطنية، ولمدبري الشأن العام بالتحديد، ولكل الفاعلين السياسيين والاقتصاديين، خاصة وأن جلالة الملك بعنايته واهتمامه هذا، يرسم كذلك معالم الطريق، وينبه إلى الأسبقيات الملحة في مختلف القطاعات، وعلى الأصعدة الوطنية والجهوية والمحلية. وما الرسالة الملكية موضوع هذا الحيز إلا نموذج آخر في هذا الباب، وهو ما يقف عليه القارئ في كل فقراتها، ومنها قول جلالة الملك في الفقرة التي أوردناها في مقدمة الموضوع: "إننا على وعي تام بأن ورشا كالجهوية المتقدمة، هو مشروع يمتد على المدى البعيد، يستوجب التحلي بكثير من الحزم لرفع الجمود، واليقظة لمواجهة العقليات المحافظة، والتفاعلية من أجل التكيف والتعديل والملاءمة بكيفية مستمرة".