قديما قيل: “رُبَّ ضارة نافعة” أو “رُبَّ نقمة في طيها نعمة”، وهذا القول ينطبق على عدد من حسنات الفترات العصيبة التي نعيشها في ظل الطوارئ الصحية والحجر المنزلي، حيث انبعثت بعفوية وبغير سابق تصور في بلادنا، جملة من الأعمال والابتكارات المنجزة في وقت قياسي، وعلى علاتها وتعثراتها، ما كان لنا أن نصدق أننا نتوفر على مؤهلاتها، وعَمِينا عن ملاحظتها أو رؤيتها، من شدة جلدنا الدائم للذات، واستطابتنا خطاب الأزمة والرفض والنقد، وتبخيس الجهود والكفاءات. فهذه نخبة من شبابنا تعكف على رسم معالم مستقبل وطني زاهر في مجال الابتكارات والاختراعات التكنولوجية الحديثة، كانت تحتاج فقط إلى مثل هذه المناسبة العصيبة لكي تفجر طاقاتها، وتطلق العنان لمخزونها من الوطنية والمعرفة والخبرة، لكي تخرج إلى الناس بأجمل هدايا المخترعات لتحسين الأداء التقني الطبي والأمني في مواجهة وباء كورونا، وهذه مجموعة من مقاولاتنا تكسب رهان إنتاج ملايين من الكمامات المغربية، بمواصفات ومعايير دولية مقبولة، غطت حاجياتنا الداخلية، وهي سائرة نحو تلبية عدد كبير من طلبات دول المعمور، التي أعجبت بالعزيمة والقدرة المغربيتين على ربح تحدي رفع درجة التعبئة والإنتاج والابتكار، وفي الآن نفسه الالتزام بإجراءات وتدابير الحجر الصحي. وهؤلاء أطباء وممرضون ومعلمون وأساتذة ورجال أمن وجيش ودرك وسلطة وإدارة وعمال نظافة وغيرهم من العاملين والموظفين، كل من موقعه ومسؤولياته واختصاصاته، ابتكروا وأبدعوا طرائق في التواصل وفي التعبئة والتأطير والعمل المنقطع النظير، ما استحقوا عليها انتزاع تصفيقات حتى من أشد من كانوا ينتقدونهم صباح مساء، أو ينسبون إليهم خمولا وكسلا وضعف كفاءة ومؤهلات. لقد أبانوا جميعهم أنهم عند الحاجة والواجب يظهرون، وأنهم عند الامتحان يعزون، وأن ما يحتفظون به من قدرة على العطاء والإبداع أكبر بكثير مما نراه. وهؤلاء المحسنون والمتبرعون والمتطوعون العاملون في صمت، والذين لا نكاد نراهم، ولا نكاد نضبطهم أو نحصي عددهم، لشدة خفائهم مع ظهور جلائل أعمالهم وآثارها في التضامن والتعاون والتآزر، يسابقون بالخيرات ويكشفون عن أخلاق حضارية للمغرب لا تنكشف كلية للعيان إلا في أوقات الأزمات وأزمنة المحن… سيرتفع هذا الوباء يوما ونعود إلى حياتنا الطبيعية، لكن بعزيمة أقوى على تحويل كل هذا الرصيد من التجارب المغربية الفريدة والناجحة المتفرقة، إلى مشروع لبناء مواطن مغربي جديد، نقطع في علاقاتنا به مع كل مظاهر الإقصاء والإهمال والتبخيس التي دفنا بها ما يختزنه جوهره من كفاءات وقدرات على الابتكار والإبداع والانتاج. لن يستقيم أمر للحكومات والمشاريع والمخططات الوطنية، ما لم تَسترجع بَعدَ ارتفاع الوباء كل عناصر تجربة الحجر الصحي بما فيها من إيجابيات ومحاسن، لعل أبرزها قدرة شعبنا على تحويل الأزمة إلى فرصة للانبعاث والنهضة والخروج من النفق. فالشعوب المتجذرة في الحضارة لا تزيدها الأزمات والوباءات والكوارث إلا تجذرا وقيامة من مراقدها ورمادها. فعلينا جميعا تقدير هذا المعطى الثقافي والإجتماعي المغربي، والعمل على استثماره في تحرير الطاقات الابتكارية للمواطنين، وإعادة النظر في كل ما أنتجناه حول شبابنا ونخبنا وأطرنا من ازدراءات وتحقيرات، بينما العالم اليوم يطلب هذه الطاقات والكفاءات ويتقرب إليها ويتهافت عليها، ويغريها ويحفزها بتثمين ما لم نستطع نحن تثمينه ولا تقديره فيها.