صادق مؤخرا مجلس الحكومة على مشروع النظام الأساسي للقضاة رقم 13106. و قد عرف هذا المشروع عدة مناقشات و مشاورات عملت فيها وزارة العدل على استشراف آراء أعضاء المجلس الأعلى للقضاء و المسؤولين القضائيين و الجمعيات المهنية القضائية بالإضافة إلى عقد لقاءات موسعة مع قضاة المملكة على حسب ما ورد في ديباجة المشروع. و باطلاعنا على نص هذا المشروع يمكن بكل اختصار أن نسجل بعض الإيجابيات و بعض السلبيات وفق النحو التالي: النقط المضيئة: 1 استحداث درجتين بعد الدرجة الاستثنائية. نصت المادة 6 من المشروع على استحداث درجتين بعد الدرجة الاستثنائية و هي الدرجة الممتازة و الدرجة الفريدة مدة كل واحدة منها 6 سنوات على الأقل. و يعكس هذا التوجه الرغبة في إنصاف القضاة المصنفين بالدرجة الاستثنائية و تشجعيهم و تحفيزهم ماديا للعطاء أكثر. 2 إنصاف الموظفين الوالجين سلك القضاء. نصت المادة 9 من المشروع على أن الموظفين الذين ترتب عن ولوجهم للقضاء نقص في الأجرة يتقاضون تعويضا تكميليا. و هذا المقتضى من شأنه أن يحفز الموظفين و الأطر الإدارية الذين يترددون في ولوج سلك القضاء خوفا من حرمانهم من كامل رواتبهم التي كانوا يتقاضونها برسم سلك الوظيفة العمومية. 3 تعيين الرئيس الأول و الوكيل العام بمحكمة النقض. حددت المادة 17 من المشروع مدة تعيين الرئيس الأول بمحكمة المقض و الوكيل العام للملك لديها بخمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة. على أساس إمكانية وضع حد لمهامها قبل هذا الأجل. و قد كانت مسودة المشروع في صيغتها الأولى تمنح إمكانية التعيين في هذين المنصبين مدى الحياة. 4 تبعية قضاة النيابة العامة للوكيل العام للملك بمحكمة النقض. نصت المادة 20 صراحة و في انسجام مع مقتضيات مشروع القانون المنظم للمجلس الأعلى للقضاء على تبعية قضاة النيابة العامة للوكيل العام للملك بمحكمة النقض في إطار التسلسل الرئاسي. بمعنى أصبح التوجه واضحا بأن استقلال النيابة العامة عن السلطة التنفيذية يعني عدم تبعيتها للسلطة التنفيذية في شخص وزير العدل. و هو ما يكرس إرادة الدستور التي التحمت فيها إرادة الملك و الشعب الهادفة إلى منح السلطة القضائية استقلالا حقيقيا يجعل من احترام القانون أساسا لها بعيدا عن أية ميولات أو اعتبارات سياسية. 5 التعويض عن المهام الإضافية. نصت المادتان 22 و 23 على حق القضاة في التعويض عن أشغال الديمومة و عن التنقل و الإقامة من أجل المشاركة في التكوين المستمر. و كذا عن تعويض القضاة المشرفين على التسيير الإداري للمحاكم. و يعتبر هذا المقتضى إطارا قانونيا للحق في تعويض خاص سيصدر بشأنه مرسوم خاص ينتظر أن ينتج عنه إقرار تعويضات عادلة و مناسبة لحجم المهام الإضافية التي يقوم بها بعض القضاة و التي لم يكن يعوض عنها في السابق. 6 إحداث تكوين خاص للإدارة القضائية. نصت المادة 43 على أن يتلقى المسؤولون القضائيون تكوينا خاصا حول الإدارة القضائية. هذا المقتضى يكرس توجها جديدا في اعتماد المعيارية و الكفاءة و النجاعة القضائية . غير أن النص لم يرتق به إلى درجة الواجب والإلزام و إنما يبدو أنه مجرد إمكانية و الحال أن الإدارة القضائية تحتاج إلى تكوين علمي خاص بالإضافة الي ملكة التدبير و التسيير. 7 الاطلاع على نشرة التقييم. لأول مرة في تاريخ النظام الأساسي للقضاة يعترف القانون بحق القاضي في الاطلاع على نشرة التقييم التي أعدها المسؤول القضائي خلال السنة الأخيرة. هذا الحق نصت عليه المادة 48 و التي أتاحت للقاضي المعني بالأمر كذلك إمكانية التظلم ضد التقييم السلبي أمام المجلس الأعلى للسلطة القضائية وفق مسطرة خاصة. 8 رد الاعتبار. لأول مرة كذلك نص المشروع ) المادة 93 )على إمكانية تمتيع القاضي المحكوم عليه بعقوبة تأديبية برد الاعتبار إليه بعد مرور مدة ثلاث أو خمس سنوات بحسب درجة المخالفة. هذا المقتضى المستمد من قانون المسطرة الجنائية من شأنه تشجيع القاضي المدان على تقويم سلوكه و تحسين مساره المهني. 9 استحداث منصب نائب المسؤول القضائي. في إطار تفادي وقوع فراغ أو شغور في منصب المسؤول القضائي و كذا من أجل إعداد بعض القضاة لتحمل مهام الإدارة القضائية مستقبلا تم استحداث منصب النائب عن المسؤول القضائي في المحكمة سواء على مستوى قضاء الحكم أو قضاء النيابة العامة و على كافة درجات المحاكم أي ابتداء من محاكم أول درجة مرورا بمحاكم ثاني درجة و وصولا إلى محكمة النقض ) المادة 16 و 18(. 10 لا مركزة قرار منح الرخص الإدارية. خولت المادة 53 للرئيس المباشر قرار منح الرخص الإدارية للقضاة بعد أن كانت هذه الرخص من اختصاص وزير العدل. و من شأن هذا الإجراء تبسيط مسطرة الرخص الإدارية بالشكل الذي يجعل الاستفادة منها يراعي مصلحة القاضي المعني بالأمر و كذا السير العادي للمحكمة و تلافي البيروقراطية التي كانت سمة المرحلة السابقة. النقط المظلمة: بعد استعراض النقط الإيجابية ارتأينا أن نتعرض لبعض النقط السوداء التي ما كان للمشروع أن يتضمنها. و هي في نظرنا: 1 تعيين جميع الملحقين القضائيين في النيابة العامة. نصت المادة 8 من المشروع على تعيين جميع الملحقين القضائيين وجوبا في النيابة العامة لقضاء مدة سنتين على الأقل قبل إقرار إمكانية تعيينهم في قضاء الحكم. و لم تقدم الحكومة أية مبررات موضوعية لهذا الاختيار التشريعي علما بأن الخصاص بقضاء الحكم أكبر منه في النيابة العامة و أن الأصل في القضاء هو القضاء الجالس لا الواقف. و ربما تحكمت في هذا الاختيار خلفية مناهضة الحراك القضائي الذي تميز بنزعة استقلالية قوية فتفتقت عبقرية مقترح التشريع على إخضاع القاضي المعين حديثا لمنطق التعليمات مدة سنتين قبل تقرير مدى صلاحيته لتقلد مهام الحكم أو إبقائه في صف النيابة العامة. 2 تكريس الترقية كامتياز و ليس كحق. أعادت المادة 28 من المشروع تكريس مقتضى سلبي في النظام الأساسي لسنة 1974 و مؤداه أنه في حالة عدم قبول القاضي للمنصب الجديد على إثر ترقيته تلغى هذه الترقية. فالمفروض أن الترقية حق للقاضي و مكافأة له على حسن سلوكه و مساره المهني لذا من غير المقبول جعلها مشروطة بقبول منصب جديد لا يتوافق مع رغبته لتتحول الترقية إلى عقوبة مبطنة. 3 التضييق على العمل الجمعوي. نصت المادة 38 على منع كل عمل فردي أو جماعي كيفما كانت طبيعته قد يؤدي إلى وقف أو عرقلة عقد الجلسات أو السير العادي للمحاكم. و الملاحظ أن الدستور بالرغم من حظره انخراط القضاة في الأحزاب السياسية و النقابات إلا أنه لم يمنعهم من ممارسة أشكال الاحتجاج أو الضغط الذي قد يؤدي إلى خدمة مصالحهم المشروعة. و أن من شأن هذه الصيغة التي تتسم بالعمومية و الضبابية إفراغ كل عمل جمعوي و حراك قضائي من محتواه. و هي صيغة تذكر بقانون كل ما من شأنه. فهل يعتبر مثلا تأخير انعقاد الجلسة لفترة قصيرة بمثابة وقف لعقد الجلسات؟ و هل يعتبر تحرير الأحكام بخط اليد بدلا من رقنها بالحاسوب عرقلة للسير العادي للمحاكم؟ 4 التوسع في تفسير مفهوم التحفظ. منعت المادة 41 على كل القضاة إبداء رأيهم في أية قضية معروضة على القضاء. و يعتبر هذا المنع تجسيدا لمفهوم واجب التحفظ المفروض على القضاة. و هو بالضرورة تقييد لحق القضاة في التعبير الذي اعترف به دستور 2011. فهل المقصود بالقضية المعروضة على القضاء الملف الذي لا زال رائجة أمام هيئة معينة؟ أم الملف الذي لا زال قابلا للطعن فيه أمام القضاء علما ان هناك عدة طرق للطعن العادية و الاستثنائية ؟ و قد نضطر إلى انتظار سنوات و سنوات قبل أن يصبح حكم ما نهائيا. ثم إنه كان من المفروض أن يقتصر المنع على القاضي الذي يحتمل أن تعرض عليه القضية الرائجة أمام هيئة معينة. أما باقي القضايا التي يستحيل عرضها عليه فأعتقد أن تعميم حظر إبداء الرأي فيها على باقي القضاة باعتبارهم رجال قانون و أصحاب فكر فيه عنت كبير و تضييق خطير على حرية التعبير و أنه يجب التمييز بين العمل القضائي للقاضي و نشاطه الفقهي و البحثي و القانوني الصرف الذي يخدم البحث القانوني و لا يؤثر على مجريات العدالة. 5 الالتزام بالمشاركة في برامج التكوين المستمر. كرست المادة 41 التكوين المستمر كواجب و التزام واقع على عاتق القضاة و لذلك ألزمتهم بالمشاركة في برامجه و دوراته. و كان الأصح أن يعتبر التكوين المستمر حقا للقاضي و واجبا عليه في نفس الوقت. بمعنى أن تلتزم الدولة من جانبها بتوفير ظروف و شروط ملائمة للتكوين المستمر للقاضي حرصا على تعميق المدارك القانونية و مواكبة المستجدات القانونية قبل أن تفرض عليه حضور دوراته و برامجه. سيما و أنه سبق للقضاة أن قاطعوا التكوين المستمر الذي تغيب فيه أدنى شروط التكوين العلمي الجاد فكيف يكون حضور مثل هذا التكوين واجبا في غياب ضمان جودته و فعاليته كحق للقاضي و للمتقاضي قبل ذلك. 6 الالتزام بالإقامة داخل الدائرة الاستئنافية. على خلاف المبدأ الدستوري المستمد من المواثيق الدولية و التي تكفل للمواطنين الحق في التنقل بكل حرية بما يعنيه من ذلك من حرية اختيار مكان الإقامة تطالعنا المادة 44 من المشروع بمقتضى يلزم القضاة بضرورة الإقامة فالدائرة الاستئنافية التي يعملون فيها. و لا شك أن التشدد في تطبيق هذا الالتزام سوف ينعكس سلبا على الاستقرار الأسري و الاجتماعي للعديد من القضاة. 7 تقييد الرخصة الاستثنائية بدون أجر. حصرت المادة 56 مدة الرخصة الاستثنائية بدون أجر في شهر واحد كل سنتين خلافا للمقتضيات المضمنة في قانون الوظيفة العمومية علما بأن المسودة الأولى للمشروع كانت تنص على مدة سنة إذا كان الهدف منها التفرغ للبحث العلمي. 8 منع الحق في الإضراب. أوردت المادة 89 تعدادا على سبيل المثال للأخطاء الجسيمة الموجبة للتوقيف حالا و من بينها الامتناع عن العمل المدبر بصفة جماعية و وقف أو عرقلة السير العادي للجلسات و المحاكم. يسجل إذن على المشروع منعه لحق الإضراب بشكل صريح بالرغم من عدم التنصيص على مصطلح الإضراب. و قد استبق المشروع القانون التنظيمي للإضراب الذي يحيل عليه الدستور و هو المكان الطبيعي لتقنين الإضراب بما في ذلك حصر الفئات الممنوعة من ممارسة الإضراب. و نؤكد أنه ينبغي تنظيم شروط الإضراب و ليس منعه و أن الإضراب الممنوع بالنسبة للخدمات المرفقية الأساسية هو الإضراب غير المشروع و غير المبرر أي التعسفي أو الإضراب الذي يشل المرفق بشكل كلي. 9 الحرمان من الضمانات التأديبية. حرمت المادة 94 القاضي المنقطع عن العمل من الضمانات التأديبية المنصوص عليها في مشروع القانون التنظيمي. و في هذا خروج عن مبادئ المحاكمة التأديبية العادلة. 10 الرفع من سن التعاقد. رفعت المادة 96 سن تقاعد القضاة إلى 65 سنة حتى قبل أن يحسم قانون التقاعد في الأمر. و في هذا المقتضى إجحاف بالنسبة للقضاة الذين أضنتهم مشاق المهنة و همومها. و كان من الأفضل جعل الاستمرار في العمل بعد سن الستين اختياريا لمن رأى في نفسه القدرة على المزيد من العطاء المهني. و الأدهى من ذلك أن مشروع القانون التنظيمي أتاح إمكانية تمديد سن التقاعد بعد 65 سنة لمدة سنتين قابلة للتجديد مرة واحدة تلقائيا و ليس بناء على طلب. و هو ما يعني أنه بإمكان القاضي أن يجبر على العمل إلى حدود بلوغه 69 سنة. كانت هذه بعض الملاحظات المعروضة بإيجاز أتمني أن تغنوها بمساهماتكم.