كل مشاهدي الشاشة الصغيرة "الحاركين" عبر "طباسل" القنوات الفضائية العربية أو عبر Dreambox الملتقط لكل التلفزات العالمية، كلهم يشاهدون برامج حوارية، سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، بل حتى ترفيهية، معتمدة على نتائج استطلاعات الرأي العام. استطلاعات تزداد انتشارا وتنوعا عند اقتراب انتخاباتهم الرئاسية أو الوطنية البرلمانية أو الجهوية أو الجماعية المحلية. بالموازاة مع حضور مستمر خلال كل شهور السنة، لتقصي أحوال السكان حول شتى المواضيع المتعلقة بحياتهم اليومية، في مأكلهم ومشربهم وملبسهم وترفيههم ومشاهداتهم التلفزية وأذواقهم الاستهلاكية... لكنها استطلاعات عندنا فقيرة التطلعات، تتعلق بأشغال فئة قليلة من مكاتب متخصصة، أغلبها أجنبية، في "الماركوتين" التجاري، لمساعدة بعض منتجي المواد أو الخدمات على توجيه تطابقها ما أمكن مع أذواق واستهلاك الفئات المستهدفة، إضافة إلى تقييم مستوى المشاهدة (Audimat)، لتمكين المنتخبين من معرفة قدرات أو تعثرات برامجهم المعروضة على المشاهدة إلى حد لجوء المستشهرين إلى الربط بين الثواني المشرية من البث التلفزي والمطالبة بإظهار ممثل (ة) أو منشط (ة) خلال عرض البرنامج على الصفحة الإشهارية، بجانب البورتابل أو دقيق الحلوى أو مضارب البصمة! . إلا أن استطلاع الرأي لا يعني دائما هبوط الحقيقة المطلقة! لأن كل محاولة استقراء التعبير عن الرأي العام تبقى رهينة بتقديم الآراء الشخصية للفئة المستجوبة (بفتح الواو)، أتذكر إلى أي حد كانت كل "السوندجات" الفرنسية متأكدة من وصول المرشحين: ليونيل جوسبان عن الحزب الاشتراكي وجاك شيراك المنتهية ولايته آنذاك (وصولهما) إلى الدور الثاني من الرئاسيات ولا استطلاع واحد تنبأ لوصول اليميني المتطرف "جان ماري لوبين" مع جاك شيراك! . مع العلم أن الطريقة التي يوضع بها السؤال قادرة على تغيير فحوى الجواب. لنبقى مع التجربة الفرنسية، مع سؤال استقراء سبق وضعه على هذا الشكل: "إلى أي حد يؤثر البرنامج Les guignols على تصويت الفرنسيين؟» جاء الجواب بنعم عند 70٪ من المستجوبين. أما حين تحول السؤال إلى : هل Les guignols يؤثر على تصويتك؟» تراجعت النسبة إلى 7٪ فقط!. . ثالثا، وهنا أعود إلى المغرب، لابد لكل استقراء للرأي العام أن يتحلى بكثير من التواضع وقبول كثير من النسبية عند تقديم الاستنتاج الصحفي. خاصة حين لا يتعدى عدد المستجوبين 1004! مطالبون بتمثيل الرجل والمرأة، الشاب والمتقدم في السن، الحضري والقروي، في كل جهات البلاد، ومطالبون (فقط عبر الهاتف) بإعطاء رأيهم الخاص حول كل مظاهر الحياة السياسية وتقييم كل النتائج الحكومية وترتيب كل الزعماء الحزبيين والنقابيين وكل الوزراء الحاليين، مع تحويل هذا الرأي الخاص إلى "رأي كل المغاربة" جملة وتفصيلا. هذا ما قام به مؤخرا مكتب الدراسات SUNERGIA، وما اكتفت بمحتواه الكمي المتواضع أسبوعية مغربية اقتصادية تصدر باللغة الفرنسية، خرجت لقرائها بعدة استنتاجات قد تحتاج إلى أطروحة ماستر أو دكتوراه لتبرير كل ما جاء فيها من أحكام نهائية. فقد جاء في إحدى أعمدتها أن "قوى المعارضة لا تشكل إلا 12٪ من الأصوات المعبر عنها، ولا تزن إلا 3٪ من الهيئة المصوتة". ما يدفع إلى التساؤل حول التهور التحريري والارتجال التحليلي، اللذين لا يجدان مانعا في القفز الطولي، للمرور من مجرد استطلاع رأي ألف مغربي عبر الهاتف إلى الحديث بلا حشمة عن "الهيئة المصوتة" (!) تم كيف لألف مشارك، نصفهم (NSP) لم يدلوا برأيهم، باسم كل المغاربة! وبنفس الألف شخص يستطيع محلل اليومية المعلومة إصدار عنوان بارز حول "بن كيران رجل دولة". ذهابا إلى حد التنبؤ له ب "رئاسة حكومية ثانية مقبلة"! إذ كيف يمكن تأويل معطيات الاستقراء، رغم نسبيتها، لتحويلها إلى آمال اليومية المعلومة، انطلاقا من معطيات مغلوطة ومتناقضة عندما يضع رئيس الحكومة الحالي على رأس اختيار المستجوبين (بفتح الواو) بين الوزراء الأولين منذ "التناوب التوافقي". ثم، في نفس الوقت، يقدم خط تنازلي واضح التراجع لشعبية رئيس الحكومة من 86٪ من الراضين (عند شهر يناير 2012) إلى 47٪ نهاية السنة الماضية (!) أخيرا، كيف يمكن التنبؤ لرئاسة حكومة حالية برجوع صاحبها بعد الانتخابات المقبلة؟ حين يعترف صاحب الصفحات "التحليلية" (!) أن الذين أجابوا عن أسئلتهم ليسوا راضين عن التشغيل والتربية والصحة ومحاربة الفساد وتدبير المالية العامة... وحين لا يعرف المستجوبون (بفتح الواو) أسماء نصف أعضاء الحكومة، ثلاث سنوات بعد تعيينها!