كانت الساعة تشير إلى حدود الثامنة ليلا بالتوقيت المحلي، حينما كسر ضجيج كبير صنعه شباب وكهول سبات الجزائر العاصمة، وراح مئات الغاضبين غالبيتهم من الفقراء الكادحين يعبثون بكل ما وجدوه في طريقهم على مستوى أحياء باب الوادي، الشراقة، بلوزداد، اسطاوالي والحراش، كما لم يتردد هؤلاء عن حرق العجلات المطاطية واستهداف السيارات الرباعية الدفع، فضلا عن رشق قوات مكافحة الشغب بالحجارة، كطريقة في التعبير عن تذمرهم من الصعود الجنوني في أسعار الزيت والسكر والحليب وغيرها من المواد الاستهلاكية التي قفزت خلال ال96 ساعة الماضية إلى مستويات خيالية. وفي أجواء أعادت إلى الأذهان (زلزال) الخامس أكتوبر/تشرين الأول 1988 الذي هزّ الجزائر قبل 22 عاما، احتدم الموقف بعد تدخل عناصر الشرطة لفض المظاهرات عن طريق إطلاق أعيرة نارية في الهواء والقنابل المسيّلة للدموع، ما تسبب في وقوع إصابات (الجهات الرسمية تحدثت عن جريح واحد فحسب)، فيما جرى إيقاف أربعة أشخاص بينهم الزعيم الإسلامي البارز "علي بن حاج" ونجله، بسب إلقائه خطابا على المحتجين. وبقي الأمر على منواله إلى غاية الثلث الأخير من الليل خصوصا بحي باب الوادي الشعبي الذي بقي يتأرجح بين مد وجزر بين الغاضبين وقوات الأمن، في وقت انتقلت عدوى العنف إلى محافظة وهران (450 كلم غرب) ومناطق البليدة (50 كلم غرب)، تيبازة (90 كلم غرب) والجلفة (300 كلم جنوب) التي كانت بدورها على موعد مع قلاقل لم تقل حدة، طبعها رشق مرافق عامة ومقار أمنية بالحجارة، ما أدى إلى تسجيل خسائر في عدد من المحال التجارية مع شلل في حركة المرور، واستدعى الأمر تعزيزات أمنية مكثفة بحي "الحمري" العريق. وفيما يبدو الوضع مستقرا إلى غاية كتابة هذه السطور، تتوقع مراجع محلية أن يعود الاضطراب مجددا، لا سيما مع إصرار المواطنين الغاضبين على اتخاذ السلطات لقرارات واضحة تلغي بموجبه مجموع الزيادات الحاصلة في الأسعار، وهو ما وعد "مصطفى بن بادة" وزير التجارة الجزائري بمعالجته في مجلس حكومي الأسبوع المقبل، مسقطا عن الجهاز التنفيذي مسؤولية الزيادات، وملقيا بالمسؤولية على جهات لم يسمها لاحظ أنّها لم ترضى بالتدابير الأخيرة الخاصة بتنظيم الممارسة التجارية. وبلغة الأرقام، جرى بيع المواد الواسعة الاستهلاك في الأيام الأخيرة بزيادات 30 إلى 50 بالمائة عن أسعارها المعتادة، على رأسها المنتجات الزراعية الطازجة تماما مثل المواد نصف المصنّعة، وصار اللتر الواحد من الزيت يباع ب160 دينارا (أكثر من دولارين وربع)، كما عُرض التجار الكيلوغرام الواحد من السكر ب130 دينارا (ما يقارب الدولارين)، في وقت شهدت اللحوم والدقيق بنوعيه إضافة إلى الخضروات، التهابا في الأسعار، رغم حديث السلطات المتكرر عن تسقيف الأسعار في بلد تقل رواتب موظفيه بثلاث مرات عن رواتب نظرائهم في تونس والمغرب. هذا الوضع فجّر انفجارا متوقعا وسط الفقراء وغليانا لدى العاطلين، ويقدّر كل من "هيثم رباني" و"فيصل معطاوي" أنّه لا قدرة لقطاع معتبر من المجتمع المحلي لا سيما فئة الموظفين محدودي الدخل، على تحمّل وطأة الأسعار المذكورة، خصوصا مع ما يشكو منه السكان من ترد واضح في الوضع الاجتماعي جرّاء إمعان السلطات في فرض الرسوم الجزافية ومشكلات السكن والعدالة الاجتماعية واتساع الفساد واشتداد حدة البطالة (الحكومة تحصرها في 10.2 بالمائة، فيما ترفعها هيئات غير رسمية إلى 25 بالمائة). ولا يستبعد معطاوي أن تكون لمواجهات الأمس خلفية سياسية، وسط الاحتباس الحاصل على مستوى قمة هرم الحكم، كما لا ينظر "أنيس بن مختار" بعين بريئة إلى ما حصل،علما أنّ الجزائر تعودّت على هكذا قلاقل في تاريخها الحديث، وهو اعتبار يربطه مراقبون هذه المرة باقتراب الانتخابات التشريعية والمحلية ومسارعة الحزب الحاكم لترشيح الرئيس الحالي "عبد العزيز بوتفليقة" (74 عاما) لولاية رابعة رغم كل ما ينتاب وضعه الصحي بعد أقل من سنتين على ظفره لولايته الثالثة. وبعد "هدنة" نسبية تلت تسوية جزئية لمشاكل الخبز والحليب والوقود والرواتب والقلاقل التي أفرزتها قبل سنوات، تؤشر المعطيات المتوافرة على أنّ باب احتقان الجبهة الاجتماعية في الجزائر لا يزال مشرّعا، في صورة الإضراب الواسع الذي باشره عمال مرفأ العاصمة وهو الأكبر من نوعه محليا، ما يهدد بإفراز نتائج وخيمة على وضع اجتماعي بات يسوء أكثر فأكثر في ظلّ عجز الحكومة الجزائرية عن منح وصفات ناجعة لامتصاص غضب مواطنيها. ورغم أنّ الجزائر تتمتع باحتياطي هام من النقد الأجنبي يربو عن 155 مليار دولار، إلاّ أنّ مستويات الفقر في الجزائر تضاعفت على مدار السنوات الأخيرة، حيث بقي متوسط دخل الفرد في الجزائر بين 1500 وألفي دولار سنويا، أي بمعدل تسعة دولارات في اليوم، بالرغم من البحبوحة المالية لدولة تتموقع ضمن كبار منتجي النفط. وفي بلد يبلغ معدل أعمار نصف سكانه (36 مليون نسمة) أقل من 25 سنة، برز فريق من "فاقدي الأمل" وهم أولئك الشبان الذين يشعرون أنهم مهمشون في المجتمع، وانغلقت الآفاق أمامهم، رغم كونهم يحملون شهادات جامعية عليا.