أكبر عيب في منظومتنا التعليمية بالمغرب و الوطن الإسلامي هو كيفية تمثلنا لنظام الامتحانات وإفراغها من محتواها البيداغوجي و إلباسها لبوسا يفرغها من محتواها التي من أجله خلقت له .. إن الامتحانات ليست الطريقة الوحيدة لتحقيق الأهداف التربوية والتعليمية الملائمة لمستوى التلاميذ في عصر العولمة بل لابد من اختيار طرائق بيداغوجية وديداكتيكية تمكن من تحقيق تلك الأهداف، ووضع تصور تقويمي شمولي غير مجزوء على ركائز أساسية هي تحصيل المعرفة، تفسيرها وتأويلها، استثمارها وتوظيفها. و ليس تحميل كل العملية البيداغوجية على كاهل عنصر جزئي ألا وهو الامتحان.. فنلاحظ بهذا الخصوص أن طرق الإمتحانات تنحصر كما تعودناها في مدارسنا المغربية على: “سؤال مباشر وجواب مجتر وببغائي.” في حين أن آفاق استعمال السؤال الإختباري هي أرحب و أوسع استعمالا و فعالية.. إن هذا النظام القديم الذي يشكل الإمتحان عصبه المركزي أثبت عقمه وتجميده لطاقات الإبداع والتحرر.. الإمتحانات تمارس في ظل غياب تام لمناهج محددة ودقيقة. و من المهزلة بمكان أنها -الإمتحانات- تستمر حتى السلك الثالث، حتى ان تاريخ الباحث المغربي يصبح تاريخ حفظ واعتماد على الذاكرة أكثر من الإبداع والإنتاج الفعال.. ذلك أن الإمتحانات تضل هي القاسم المشترك في النظام الدراسي من المرحلة الإبتدائية إلى المراحل النهائية.. إذ تركز الامتحانات أساسا على قياس مدى حفظ واستعراض المعلومات بشكل آلي، وتلغي قياس الكفاءة في المستويات العليا للنشاط العقلي(التحليل، الاستدلال، الإبداع). و في ظل هذا الوضع الموبوء تصبح الجامعات مجرد مؤسسات وفضاءات للتقويم الإختباري/الإمتحاني، أكثر منها فضاءات للتربية وذلك باعتبار الموقع المركزي الذي تحتله مسألة التقويم ومسألة الإمتحانات بشكل خاص. و من المؤكد في ظل هذا النموذج التعليمي التقليدي تحظى الإمتحانات بأهمية مبالغ فيها، وتصبح النقطة هي المبتغى الأسمى والأول لدى التلميذ والطالب على السواء بغض النظر عن تطوير القدرات(الإنتاجية، الإبداعية، الأسلوبية، التحليلية، الفكرية...). إن الأكاديميات بهذا المعنى تصبح مراكز لتنظيم الإمتحانات، والمفروض أن تصبح الأكاديميات المحدثة خلايا حقيقية للبحث العلمي التربوي تساعد على تطوير النظام التعليمي والممارسة التعليمية. إن مفهوم “السنة الدراسية”، “السنة الجامعية” يحتاج إلى إعادة النظر، والإمتحانات هي أكثر مايكرس الخلل في هذه السنوات التعليمية. و المتأمل لفضاءات التحضير للإمتحانات: المقاهي، المقابر، الحدائق، الشوارع الخلفية، الساحات... فإنه يكتشف أن هذه الفضاءات تدل على طبيعة التحضير على أنها تتوخى الحفظ ثم “الكريد” عن ظهر قلب ولا يختلف في هذا الباب طلبة المسيد عن طلبة الجامعة. و إذا قرأنا هذه الظاهرة سوسيولوجيا وقارنا بين طقس الإستعداد للإمتحانات بين المغرب وأي دولة متقدمة أخرى في العالم(السويد، فرنسا، بريطانيا..) فإننا سنجزم أن الطالب في هذه الدول يحضر للإمتحانات بارتياد المكتبات والتراسل مع الأساتذة والباحثين والبحث من خلال الإنترنيت أو اللقاء المباشر أو البحث في الكتب والمجلات لإعداد.. أما إخواننا بالمغرب فإنهم يختارون الهدوء لماذا؟ للحفظ عن ظهر قلب فقد تعودوا أسئلة قياس درجة الحفظ(إستمرار الثقافة الفقهية المعتمدة على الذاكرة وقوة الحافظة). و لقد انتابني الفضول ذات يوم لأسأل أحد أبناء الحي عن سبب اختياره لإحدى المقبرات الموجودة غير بعيد عن الحي و سبب اختياره للحفظ داخل أجواء المقابر والموتى، أجاب قائلا ببلاغة تلخص الكثير من واقعنا الثقافي المغربي المزري: لسببين؛أولهما الأموات لايتكلمون، والثاني أن مدينتنا الموقرة لاتوجد بها إلا خزانتين/علبتين من العهد الاستعماري ولا نوادي ثقافية و لا حدائق والمنزل لا يفتر عن الهدير والضجيج. ( لاأسر هادئة تساعد الأبناء على التحصيل. فقط مدن إسمنتية تغيب فيها حتى الحدائق فبالأحرى المكتبات الوطنية و الخزانات العامة المجهزة ..) إن الواقع المتردي للبحث العلمي بالمغرب يزكيه ماجاء على لسان هذا الصديق... و إذا تأملنا الوقت الذي تستغرقه هذه الإمتحانات (الإستعداد للإمتحان، فترة الإمتحانات، انتظار نتائج الإمتحان) وكلها فترة كم دون تحصيل إلى جانب الضغط النفسي الذي لايكون موازيا في الغالب للمحصول البيداغوجي المبتغى من الإمتحان نفسه. ماذا لو قمنا بعد الكيلومترات التي يقطعها طلبتنا في الأماكن العمومية وهم يحفظون حرفيا دروسهم.. لأصبنا بالذعر طبعا.. فطلبتنا يقطعون مابين 100 إلى 300 كلم باتجاه الامتحانات!؟ ذهابا و إيابا في الغابات و الشوارع الخلفية تحت أعمدة النور... إن هذا الهدر الخطير للوقت قبل وبعد وخلال الإمتحانات ينعكس على مستوى التحصيل والبحث لدى المتعلمين والباحثين.. إذ ينبغي أن يكون الامتحان عبارة عن تقييم شامل عن العمل/المجهود المبذول من طرف التلميذ/الباحث (عروض ، مشاركة، حضور، أنشطة موازية، سلوك..) وطوال السنة.. والنقطة لابد أن تبقى للأستاذ الذي يعايش تلاميذته طوال فترة تسمح له بمعرفة طاقات ومناحي الضعف لدى كل واحد على حدة واتخاذ الإجراءات المناسبة لتقوية هذا الجانب وإصلاح ذاك مع تكثيف الملاحظات التوجيهية للمتعلم. ثم إن نقط الإمتحانات خصوصا في العلوم الإنسانية تبقى تقديرية حسب كل أستاذ. فقد أجريت تجارب حول الموضوع وتم إعطاء أوراق نفس القسم لخمس أساتذة للمادة فكانت النقط الخمسة الممنوحة لكل ورقة تدعو إلى الضحك بصوت عال، لأنها فضحت نسبية الإمتحانات كمعيار للتقويم الصائب في المواد الأدبية والعلوم الإنسانية. من جهة أخرى يجب أن ينتهي عهد المقررات الطويلة، والإكتفاء بأهداف ومواضيع محددة يبقى الأساتذة مع تلامذتهم الدور الأساسي لتناولها وطريقة الإشتغال عليها.. إن الإمتحانات بمفهومها التقليدي تعني الإنتقاء والإقصاء وزرع الخوف والإرهاب النفسي للمتعلمين. لابد من أن تكون التربية/التقويم وجهين لعملة واحدة بدل العملة القديمة تربية/امتحان التي أثبتت فقرها وضعفها على جميع الأًصعدة.. إذن الإمتحان كثقافة وممارسة بيداغوجية هو وليد واقع مريض داخل الأقسام والعملية التعليمية ككل. وهي نظام إقصائي يزيد من حدة التراتب الإجتماعي. ونعتقد أنها تكرس لإقصاء فئة وأخذ الفئة التي تحددها لوائح وزارة التربية والتعليم. إذ يسمى هدفها العام جزافا ب”التقويم” وهو ليس بتقويم في الواقع بل هو إما هدم أو تنويع. فإما أن يطالب الممتحن باستظهار عدد كبير من الدروس عن ظهر قلب لكي يستخلص إحداها يوم الامتحان دون أن يبدل أي مجهود فكري، وإما أن تطرح عليه أسئلة تعجيزية، أو بليدة للغاية لا تكرس في النهاية إلا جمود العقل و لا فعاليته.. هاته الحالة التي أصبح معها الطلبة كشرائط التسجيل، والذي لايقوى على التسجيل أو يمقت الحفظ والإستظهار، يستعين”بالحروز” كدواء لداء الرسوب. ولا أدل على معضلة ثقافة الإمتحان من طلبة السلك الثالث الذين تجدهم يحنون لأسئلة الحفظ ويرهبون بالمقابل أسئلة التركيب والتحليل؟؟ و هم معذورون في ذلك إذ هم نتاج منظومة تعليمية كانت تكرس و لا زالت الإستظهار و الحفظ .. إننا نطمح إلى أن يصبح الإمتحان تمرينا واختبارا و ليس كابوسا و معيارا وحيدا و أوحد. فالامتحانات بهذا المعنى تعني في العمق الإملاء والإلقاء والإستنساخ الذي يعوض الشرح والتفسير وبناء الدرس حواريا وجماعيا.. مهزلة تجارة المطبوعات هذه الآفة التي تحول معها الأستاذ من رجل علم و تربية إلى تاجر و “بزناس” يروج لسلعته.. والتي و إن دلت على شيء فإنما تدل على مسألة غياب الضمير المهني في ضل شعارات الرغبة في إصلاح الجامعة التي يحملها في الغالب من يروج لهذه الظاهرة المقيتة و اللاأخلاقية.. و في هذا الباب أتذكر أستاذا في تطوان كان يلعب لعبة التوقيع لكي لايدخل طالب آخر الكتاب نفسه كإعارة من صديقه ليضمن بذلك شراء أكبر عدد ممكن من النسخ من كتابه طبعا.. كما أتذكر في تطوان كيف كانت تقدم المطبوعات للطلبة بخط رديء ويكثر فيه الشطب وعلى صفحات واحدة لمضاعفة الربح... فتصبح الرداءة شكلا و مضمونا عنوانا لسنة جامعية تضيع على الطالب والجامعة و الدولة سنة من المفروض أن تكون مجدية و نافعة للجميع.. هذه الأساليب ينضاف إليها ألاعيب مثل ان الإمتحان سيكون في المقرر وحبذا لو كان من نتاج الأستاذ فالنجاح أضمن.. ذلك ان الأساتذة يعودون الطلبة على ان السؤال غالبا سيكون من كتاب أو المطبوع المنجز من طرف الأستاذ فيضمن بذلك بيعا موفقا و حضا وافرا من الدراهم تنضاف إلى رصيده البنكي وتنقص من هيبته وشرفه العلمي.. ناهيك عن التعاقدات التي أصبحت تتم بين الأساتذة ومحلات النسخ التي اصبحت شبيهة بالسمسرة... و يمكن القول أن أساتذة كلية الحقوق أشهر من يعرفون بتجارة المطابع فتجدهم يحرصون كل سنة على تغيير الغلاف وحدف بعض الفصول القديمة وتعويضها بأخرى لم تكن في السابق وتغيير الموسم الجامعي ومطالبة الطلبة باقتناء النسخة المعدلة “الجديدة”! ومع هذه الوضعية لم يصبح مضمونا إلا: حصر المعرفة وتجميدها، تبليد الطلبة، قتل روح النقاش والحوار، والإختلاف الفكري، ضياع فرصة تنمية قدرات التركيب والتحليل.... و أعتقد أنه عوض تضييع هؤلاء الأساتذة في كتابة المستنسخات والمطبوعات السنوية، أن يؤلفوا الكتب في نفس المواضيع وغيرها فتمتلئ المكتبات الجامعية في مختلف المواضيع والشعب فيربح الأستاذ والطالب والباحث والتعليم الجامعي. وقد اقترح الباحث “محمد بوبكري” المنشغل بقضايا التربية والتعليم في إحدى مقالاته بجريدة الإتحاد الاشتراكي حول”تجارة المطبوعات في الكليات تدمير لوظيفة الجامعة” الإقتراحات التالية: - حصر أبعاد ما يسمى بالكتاب الجامعي. - ضمان الجودة العلمية لهذه المذكرات. - عدم إلزامية المطبوع، بل مرجعا ضمن باقي المراجع. - تولي الكلية مهام طبع المذكرات وبيعها للطلاب بسعر التكلفة. - تطعيم الخزانات الجامعية بالمراجع والمصادر وتحويلها لفضاءات للبحث والتنقيب. ظاهرة الغش في الامتحانات إن البرامج التعليمية في البلدان العربية المبنية في معظمها على ترسيخ الحفظ و عدم استغلال القدرات العقلية و الملكات العلمية... يكرس ذلك طبيعة التمارين و الإمتحانات و المناهج التعليمة التقليدية التي يغيب فيها توظيف الوسائط التقنية و الإعلامية و المبتكرة و المواكبة للعصر... الأمر الذي يؤدي إلى حصر الفكر و تقييد القدرات و تجميد العقل و منعه عن ممارسة نشاطه بحرية وإبداع و تميز... لذلك تنبث بعض الظواهر و تتشعب بشكل طفيلي عن هذا الواقع الفاسد و الغير صحي... و من بينها ظاهرة الغش في الإمتحانات كظاهرة متفشية في كل دول العالم العربي والأدهى من ذلك حتى في المستويات العليا من الجامعة و مراحل البحث العلمي ...(ليس العيب في هذا، فحتى الغرب يعاني من هذه الظاهرة)، لكن العيب في الكم عندنا.. حيث القاعدة هي النقل والغش والاستثناء هو الاعتماد على النفس عكس الغرب الذي تبقى فيه هذه الظاهرة استثناءا نادرا ... كل هذا و ذاك لا يؤدي في النهاية إلا إلى مجتمعات فاشلة و شهادات جامعية فارغة و مستوى تعليمي وعلمي متدهور.. نتمنى أن تتطور السياسات التعليمية الجامعية وتتحسن... نقول أن هناك فنون الطبخ وفنون القتال وأيضا فنون الغش التي تتطور بتخلف الأنظمة التعليمية التربوية الديداكتيكية والبيداغوجية من جهة وبتطور التقنيات المطبعية والحاسوبية والإتصالاتية.. وما وجود الغش و استفحاله إلى جانب الدروس الخصوصية إلا دليل على فشل المنظومة التعليمية وتقهقرها أكثر فأكثر على الصعيد الدولي مقارنة مع باقي الدول.. خلاصة القول ظاهرة الغش في الإمتحانات، تجارة المطبوعات، الحفظ على الطريقة الفقهية، نظام الإمتحانات، الإلقاء والإملاء بدل الحوار والمناقشة. كلها مسامير تدق في نحر العملية التعليمية و تفرغها من محتواها و تحولها إلى هدر في الطاقات البشرية و المادية و تؤجل انخراط شعوبنا الإسلامية في صنع التاريخ و الحضارة بدل الإكتفاء بالإستهلاك و التقليد و الجمود في كل شيء.. إننا ننادي باستغلال منتجات العصر و الحداثة.. إذ هناك دروس تحتاج إلى أن تطبق بطريقة سليمة ومفيدة بيداغوجيا (استعمال الوسائط، لعبة، تلفزيون، مائدة مستديرة، أستاذ زائر..) خصوصا فيما يتعلق باللغات لابد من تنويع طرق التدريس و إخراجها من التقليد والروتينية والتكرار. إننا في ظل هذه الحالة لن نحصد سوى المزيد من التمييع لدور الجامعة، والمزيد من البقاء في ظل تعليم تقليدي، استمرار طبيعيا لجو التلمذة داخل الجامعات.. و تخرج أفواج من الطلبة وهم لا يعرفون معنى المنهجية وطرق البحث السليم.. و بالنسبة للجامعات فإنها تصبح بهذه الظواهر المرضية آلة لتفريخ العجز وفقدان الثقة في النفس والتكرار وقتل حب الاستطلاع “هكذا يستبطن الطالب الانغلاق على ذاته وفقدانه القدرة على التحليق بأجنحته الخاصة “على حد قول الباحث “محمد بوبكري”.. إذا أردنا للجامعة اليوم أن تلعب دورها في التقدم والبناء والبحث العلمي الجاد فلابد من تجاوز هذه الآفات التي أثبتت سلبيتها وخطورتها على المشهد العلمي والثقافي، مع ضرورة وجود مرصد يتتبع مظاهر السلب والحداثة والفعالية في الجامعة المغربية.. ولا نستثني المسؤولية أيضا التي تقع على الطالب المغربي إذ يتوجب عليه أن يعرف كيف يخرج من هذا الكمين الذي يؤدي به إلى التخلف والإنزلاق في الفراغ والسلبية بالبحث المتواصل في المكتبات وقراءة أمهات الكتب والأدب الرفيع أن يكون أصدقاءه في الحياة هم بلزاك أو لوركا أو دوستويفسكي أو إبن خلدون أو ماركس أو إبن رشد.. أو هؤلاء جميعا. هشام عابد هسبريس