انطلاقا مما ينطق به الواقع، وبناء على مضامين التقارير الوطنية والدولية السلبية عن موقع المغرب في سلم التنمية البشرية، يتضح أنه مازال يكابد من اختلالات اقتصادية وظواهر اجتماعية، تحول دون انعتاقه من قوقعة التخلف والتبعية، وإحراز الطفرة النوعية المرجوة. وإذا كان الفقر والأمية من أبرز الظواهر المسيئة إلى وجه الوطن، والمساهمة في استشراء العنف والسرقة وانتشار المخدرات والجرائم، فهناك أيضا آفات اجتماعية لا تقل عنها أهمية، تسيء إلى العلاقات الإنسانية وتعطل وتيرة الأداء والمردودية خاصة في القطاع العمومي، ويأتي في مقدمتها: الإخلال بالواجب الوظيفي، النفاق الاجتماعي، النميمة والغيرة… ويهمني هنا، تسليط بعض الضوء على مفهوم الغيرة، لاسيما ما يرتبط منها بالحياة المهنية، وما لها من سلبيات تتجاوز بكثير إيجابياتها. ذلك أن الغيرة كما يراها علماء النفس، إحساس طبيعي يولد مع الإنسان ويجعله مشدودا إلى مقارنة نفسه مع الآخر، سواء تعلق الأمر بالشهرة، الجمال، التجارة، التفوق الدراسي أو المهني. وهي أيضا انفعال مركب يجمع بين حب التملك، والإحساس بالحنق على من يبدو متميزا عليه. وتكون طبيعية في مرحلة الطفولة، لما يتسم به الطفل من براءة في ميله نحو الاستحواذ على حنان الأم، وحبه امتلاك كل ما حوله. وتكون محمودة لدى الراشد موظفا كان أم غيره، عندما لا تتجاوز حدود الإعجاب بالآخر والرغبة في التمثل به، وتشكل حافزا للتنافس الشريف والاحترام المتبادل دون الإساءة إلى الآخرين. أما في حالة الاندفاع وعدم التحكم، فإنها تنقلب إلى غيرة مفرطة، تؤذي صاحبها قبل الشخص المستهدف، وتتسبب له في اضطرابات نفسية وعصبية. وقد تختلف أسباب الغيرة حسب الظروف والمواقف، دون أن يتغير الشعور الباطني لدى الإنسان، فطبيعة التربية التي يتلقاها منذ صباه، هي المحدد الرئيسي لمعالم شخصيته، إذ ينشأ الشخص الغيور متشبعا بحب الذات، وشديد الرغبة في أن يكون مركز اهتمام ومحبة الجميع، ومن ثم يصعب إقناعه بتجاوز نقائصه ومراجعة انفعالاته. وهي ذات وجوه عدة، منها الغيرة الزوجية، غيرة الأم من زوجة ابنها والغيرة المهنية… وإذا لم يتم تطويعها وحسن استثمارها في الاتجاه الصحيح، فإنها غالبا ما تؤدي إلى زرع بذور الشك والشعور بالقلق والخوف، وإشعال حرائق الفتنة وإثارة الصراعات اليومية، والتي تنتهي بتعكير صفو الأجواء وتخفيض مستوى الأداء في مقرات العمل وتفجير الأوضاع في البيوت… ففي فضاء الاشتغال، الذي يفترض أن يتميز ببيئة نظيفة، تسودها روح الوئام والتفاهم بين العاملين، ويوحدهم العمل الجماعي المشترك، وتلهب حماسهم غيرة إيجابية هادفة، تعتمد المنافسة النبيلة في رفع مستوى العطاء وتجويد الخدمات، للارتقاء بسمعة مؤسستهم وتلميع صورة بلادهم. وأن يسعى المتخلفون إلى محاكاة الأفضل منهم والسير على خطاهم، ليس فقط لنيل رضا رؤسائهم والحصول على الامتيازات. وإنما للنهوض بإنجازاتهم وفق ما يقتضيه الواجب الوطني والمصلحة العامة. وخلافا لما كنا نعيشه في ذلك الزمن الجميل من تآزر وانسجام، حيث كان الرئيس المباشر عادلا، ينصف المجتهدين ويأخذ بيد المتعثرين. وكان المتفوق يحظى بمكانة خاصة، باعتباره مصدر اعتزاز وافتخار ورمزا للاحترام والوقار. أصبحنا اليوم للأسف الشديد نعاني من عدة اختلالات، عم منطق المجاملات وترجيح المصالح الذاتية على القيام بالواجب. تغيرت أمور شتى في ظل التحولات التي عرفها المجتمع على مستوى القيم والأخلاق والسلوك، وصار المتفوق معرضا للانكسار وخيبة الأمل، إثر ما يلاقيه من تهميش وتبخيس جهوده من لدن رؤسائه، واستفزازات ومضايقات بعض زملائه. ذلك أن الغيور عندما يفشل في تحقيق رغباته، يشعر بالتوتر الشديد ويصبح متحاملا على الآخر، متأهبا للانتقام منه، فكل ذي نعمة محسود. وهنا تتخذ الغيرة صورة الحسد ويشكلان وجهين لعملة واحدة، وإن كانا لا يعنيان الشيء ذاته. فالحسد والغيرة انفعالان مركبان ومعقدان، لا يدخلان ضمن الانفعالات الرئيسية مثل الخوف والحزن والقلق، ولكنهما يتركبان منها جميعا وتنضاف إليهما العدوانية والكراهية… والحسد والغيرة من وجهة نظر علم النفس الاجتماعي، مجرد انفعالات تتمثل في صدور ردود أفعال عفوية، يتعذر على الكائن الحي ضبطها جيدا، ويجسدان معا فطرة إلهية يمكن تهذيبها بالتربية وحسن التوجيه. فالحسد، صفة ناتجة عن الكره والضغينة، يتصف بها بعض ضعاف النفوس من الموظفين وغيرهم، الذين يتمنون زوال النعمة من الآخر. بينما تندرج الغيرة في إطار حب التملك، وهو أقل درجة وضررا. وإذا كان الحسد، ينحصر في تمني زوال النعمة من شخص ما، أو زوالها وانتقالها إلى الحاسد، فهناك ما يسمى بالغبطة التي لا تتعدى حدود تمني الشخص نيل مثل ما يحظى به غيره من مميزات، ونادرا ما يوجد بيننا في وقتنا الراهن موظف يغبط زميلا متفوقا عليه، خارج الغيرة العمياء والحسد. وبإمكان الغيرة الانتماء إلى آفة الحسد، التي تجثم على صدر غيور ما، ضد من لا يستطيع مجاراته وتحقيق نفس نجاحاته. ولعل القاسم المشترك بين الحسد والغيرة، هو ذاك البعد النفسي المتجسم في الشعور العميق بالنقص، والرغبة في زوال النعمة من مالكها الأصلي، للانفراد الشخصي بها. فلم يعد يخلو مجال للعمل من "جراثيم" الغيرة المرضية، بعد أن انتشرت عدواها في كافة الأجسام: تعليم، صحة، عدل، أمن، فن، رياضة وإعلام… أينما يتوجه الواحد منا يصطدم بأشخاص أعمت الغيرة أبصارهم وبصائرهم، إذ بدل انشغالهم بالبحث عن مكامن ضعفهم واكتشاف قدراتهم ومؤهلاتهم، والسهر على صقل مواهبهم وتنمية مهاراتهم لتحقيق الذات، ينشغلون بنصب المكائد وتصيد هفوات موظفين أبرياء، لا جريرة لهم سوى أنهم يعشقون وطنهم بعمق، ويجعلون من قوة الإرادة والإخلاص في العمل مبادئ راسخة. وقد قال سبحانه وتعالى: " ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله" (سورة فاطر، الآية 43). إن أسوأ مظاهر الفقر والأمية، لا تكمن في حاجة الإنسان إلى الطعام والشراب وتعلم القراءة والكتابة، بقدرما تكمن في ضعف الغذاء الفكري المجدي وانعدام الوعي بالواجبات وعدم تقدير المسؤوليات. وكل من يبيح لنفسه استنزاف المال العام دون إتباث جدارته المهنية، مكتفيا بتكريس جهوده في النميمة وتثبيط عزائم الآخر، الذي يرى في نجاحه اعتداء صريحا عليه، لأنه يكشف عن فشله. فإنما يساهم في تخلف مجتمعه وبلاده. ومن المحبط حقا، أن تتحول مراكز العمل إلى أماكن للتهجمات والخلافات التافهة، التي تحد من الطموح وتؤثر على منسوب الإنجاز والإنتاج. فلنبادر إلى تصحيح عيوبنا، وإذكاء روح المواطنة في مجتمعنا، لنرقى بمستوى علاقاتنا وإنجازاتنا. ويجدر بالمتفوق منا السعي إلى تكسير شوكة مضايقيه، المصرين على عرقلة مسيرته باختلاق الأباطيل، باعتماد الصمود والتواصل الإيجابي في الرد عليهم، والتماس الأعذار لحماقاتهم. ففي ذلك قال فريدريك نيتشه: " كلما ارتفعنا أكثر، كلما بدونا أصغر حجما لأولئك الذين لا يجيدون الطيران". الغيرة المهنية بين الإيجابية والسلبية..