إن ما يميز الممارسة الفلسفية هو التأمل والتفكير في كل شيء حتى في التفكير نفسه، وما دام الأمر كذلك فسيكون من المشروع أن نفكر في طبيعة التفكير الفلسفي، وبالخصوص "الدرس الفلسفي" وهو ما نروم معالجته من خلال هذه الأسطر. فكيف يتفاعل المتعلم مع هذا الدرس؟ ما طبيعة لقائه الأول مع الفلسفة؟ما هي تمثلاته القبلية حولها؟ ما هي مقومات هذا النوع من التفكير وإلى أي حد تسهم الظروف المحايثة في ممارسته بالشكل اللائق؟وما مدى مساهمة هذا النمط من التفكير في خلخلة الأفكار والمواقف وتصحيحها ومن ثم خلق تلك الشخصية المتأملة،الناقدة،والحائرة والمندهشة بالمعنى الفلسفي؟ لعل أهم ما تُعلمنا إياه الفلسفة هو التفكير والصرامة المعرفية. فهل عندما ندرُس الفلسفة نصل إلى عمقها أم نظل قابعين في السطح؟ هل نأخذ من الفلسفة عمقها وحقيقتها أم الحقيقة كما يراها الناس عنها؟ إن ما يمنع المتعلم من الإمساك بناصيتها هو تمثلاته المسبقة الجاهزة والمطلقة،التي يأتي محملا بها والتي غالبا ما تكون ضدها. إضافة إلى ذلك فهو يسمع أفكار جديدة ومفاهيم جديدة لأول مرة،مجردة في أغلبها،وتمس مواقفه وذاته كإنسان وكموجود أيضا (العقل،الميتافيزيقا،النسبية،الإطلاق،الوعي،اللاوعي،الإيديولوجيا…).هذا النوع من التجريد ربما يصادفه لأول مرة،واختلاف المواقف أيضا وتضاربها؛ فهو دائما تعوّد أن لا يرى إلا رأيا واحدا،بينما هذا الفكر يتيح له امكانية الانفتاح على مواقف متعددة حول الموضوع الواحد،وإن كان هذا مفيدا في شيء فإنما سيكون مفيدا من حيث الحث على التفكير والدعوة إلى اجتناب الفكر الوثوقي. لكن هل هذا فعلا ما يصل إليه المتعلم؟ لقد تربى على الحفظ،ويحاول التعامل مع المادة بالكيفية نفسها التي يتعامل بها مع باقي المواد، وهذا غير ممكن، خصوصا وأنها مما يُحتاج له ولا يحتاج لغيره،فالمفروض أن يعينك المنهج والطريقة الفلسفية على التعامل مع باقي المواد كما هو الأمر مع الحياة بشكل عام. من بين الإكراهات أيضا،الإكتظاظ الذي يجعل من النص الفلسفي نصا عاديا رغم حيويته في الوقت الذي يقتضي فيه الأمر نوعا من الغوص و"الغرق" العقلي، وهو أمر صعب في جو من الفوضى سواء كانت قصدية أو عن غير قصد،فكيف نتعلم من الفلسفة تلك الرصانة(المعرفية) في جو غير رصين وهادئ؟ أيضا هناك تراكمات لدى المتعلم، خصوصا على المستوى اللغوي،إذ كيف سيفهم ويمسك بما وراء اللغة وهو لا يملك سلطة على الأشياء( واللغة من بين هذه الأشياء طبعا)؟ المسألة الأخرى وهي ناقل هذه المعرفة –وإن كانت المعرفة ليست شيئا يتم نقله- هل هذا المدرّس هو ناقل أمين؟ مدرس الفلسفة هل ينقل الفكر الفلسفي بشكل خالص وموضوعي إلى حدّ ما أم ينقله كما يراه هو على المستوى المعرفي والأخلاقي والسلوكي؟ ونحن ندرّس هل ننقل الفلسفة أم فلسفتنا الخاصة؟ هل ننقل الفلسفة أم تمثلنا ونظرتنا الذاتية للفلسفة مع ما قد يشوب هذه النظرة أحيانا من تحريف وتشويه بوعي أو بدون وعي؟ من خلال هذا التشخيص الذي يمكن أن يكون بدوره قابلا للمناقشة، ومن خلال كل هذه الإكراهات، هل نوفّق فعلا في جعل المتعلم متمكنا من الممارسة الفلسفية بما تقتضيه هذه العملية وهذا الفعل من أدوات(الاستشكال،التحليل،النقد،الحجاج،التساؤل…)، أم أن الأمر يظل حبيس التلقين و"التحفيظ" لفلسفات حتى دون ادراك معناها وتعارضها أو ترابطها والغرض منها؟ وهل ينجح مدرّس الفلسفة والدارس لها بشكل عام في افهام واقناع الآخرين أن هذا الفكر لا يدعو لا إلى الإيمان ولا إلى الإلحاد وإنما إلى استخدام العقل؟ثم في الأخير كيف ومتى يمكن إدراج المتعلم إلى الفلسفة لممارستها من الداخل؟ الدرس الفلسفي..بين الخصوصية والإكراه