إن من أهم علامات الانحطاط والخسة في وقتنا، ما نراه اليوم ينشر على بعض صفحات الجرائد أو على شات التلفاز، أو على أثير بعض إذاعات الأخبار. لقد أصبحت هذه المنابر تعج بالأقلام المأجورة التي تتوارى خلف أستار البحث عن المجهول أو تتسربل بمسوح من يمتلك الحقيقة، ويعرف أسرار الكون، أو تتربع على كراسي محاكم العدالة لتنطق بالآراء السديدة والأفكار الرشيدة، وتعيد للمظلوم حقه وتصحح لظالم سعيه وتشذب وعيه. أصبحت هذه الوسائل تطالعنا كل يوم بأخبار المدرسين على إختلاف أسلاكهم وفئاتهم تتباهى بمن يحسن النيل منهم، ويفضح عرضهم، ويحقر شأنهم، ويسفه رأيهم، ويهين بين الخلق شرفهم. إن من جهالات من يحسنون نكران الجميل وخذلان الفضيل، من يتجرأ على معلمه، فينشر كل يوم على أولى الصفحات، أو بعد قراءة فاتحة الاستهلال أخبار من يكرمه غير المسلم، ويعليه بين الورى الكافر والذمي. نسي هؤلاء أنه هو الذي أخذ بأيديهم كي يحسنوا الوقوف وبأقلامهم كي يقرؤوا ما كتب في الرفوف، وبأخلاقهم كي يجيدوا الانضباط في الصفوف… كيف تسمح ضمائر هؤلاء بأن يسيئوا إلى من كرمه الخالق، ورسوله الكريم يقول: "كاد المعلم أن يكون رسولا"؟ كيف يقبل هؤلاء بأن يسمحوا أن تهان كرامة من كان يصحح أخطاءهم، ويرمم عقولهم وأفكارهم، بل منهم من تتسع أشداقه إلى أقصاها لتكيل له الشتائم والسباب والنكران، بذل أن تكون تلك الصفحات عربون وفاء ومحبة وعرفان؟ لقد دأبت الكثير من المنابر، بوقاحة لا قياس لها باستغلال بعض الأحداث والوقائع المرضية والمعزولة، فتظهر وكأن هذا المحدود التافه، عام مطلق، فتشمل بذمها وتجريحها الغث والسمين، والمخل والأمين والدنيء الوضيع والشريف الثمين. ليس غرضهم في كل ذلك هو الحقيقة الثابتة أو النية الصادقة، وإنما هي رغبة جامحة في كسب بعض الأموال وطمس حقائق الأحوال. نسي هؤلاء بأن عشرات الآلاف من المدرسين يؤدون رسالتهم بصدق وأمانة، ويرعون تلك البراعم الطرية بتفان ومحبة أبوية. يغرسون فيهم الأمل والطموح والروية، وفضائل الأخلاق واحترام الأنساب والأعراق. إن الذين ينسون بعض هذه المكارم، ما هم إلا قلة ممن لا يبرون وليا، ولا شيخا أبيا، ولا خليلا وفيا، "ولا من كان في المهد صبيا". إن هؤلاء لا يستحيون من معلميهم ومربيهم، ولا يتورعون عن إذلالهم وإهانتهم، بما لا يترك مجالا للتحمل، ولا مسافة للصبر والتجمل. ولا يسع مدرسا أن يقول إلا ما قاله معن بن أوس: أعلمه الرماية كل يوم فلما أشتد ساعده رماني وكم علمته نظم القوافي فلما قال قافية هجاني إن من أظهر هذه العدوانية التي يريدها البعض أن تترسخ في وجدان المجتمع وتدفعه إلى مقت العلم والنفور من حامليه، هو هذا الهجوم الذي تقوده هذه الكتائب المدججة بحبر الوقاحة والجحود والتسلط. بل من هؤلاء من يزعم أنه يدرك سحر فاوست فيعلم غيب ما ينجزه المدرس في قاعة الدرس ومنهم من يدعي أنه يعلم حتى ما يجول في أعماق الأمعاء، وخبايا الأحشاء، فيصنف هذا المدرس في خانة هذا الحزب أو الجماعة، ويضع ذلك ضمن هذه الزمرة أو تلك، إلى درجة أصبح معها التلاميذ يدفعون إلى استقبال مدرسيهم على منوال الأغنية الشعبية التي تقام في حفلات الزفاف: "ها العروسة جيا" ، "ها الوريدة جيا"، "ها الشميعة جيا"، "ها الجرارة جيا"… الخ وما الأحداث الأخيرة التي شهدتها ثانوية حمان الفطواكي التأهيلية بمدينة انزكان إلا مثال حي على ذلك. فلم يجد المسؤولون على رأس وزارة التربية الوطنية حرجا في إرسال لجنة وزارية للتحقيق مع أستاذ إلا لأنه تعرض لوثيقة تاريخية متضمنة في الكتاب المدرسي، تتناول بعض معيقات المقاومة، ومنها أدوار بعض القواد، وعلى رأسهم القائد العيادي بمنطقة الرحامنة. وذلك على خلفية أن ذلك القائد له أحفاد يغيظهم أن يقال إن جدهم كان متعاونا مع المستعمر. ولهؤلاء المسؤولين الذين يفترض أن يكونوا واقفين في الخندق الأمامي للدفاع عن نساء التعليم ورجاله وصون كرامتهم نردد قول الشاعر: جعلتكمو دروعا كي تردوا سهام العدا عني فكنتم نصالها وكنت أرجي عند كل ملمة تخص يميني أن تكونوا شمالها إذا لم تقو نفسي في مكابدة العدا فكونوا سكونا لا عليها ولا لها والمفارقة التي تدعو إلى الاستغراب هي عندما نجد الدولة المغربية بأصلها وفصلها تدخل في مسلسل مصالحة مع الوطن أولا، ومع من لحقهم ضرر على عهد سنوات الجمر والرصاص، بسبب سياسات القمع والظلم والقهر التي عرفها الوطن، ومست شرائح عريضة من المجتمع ومن المناضلين والمثقفين، رغم القراءات المتعددة التي يمكن أن تعطى لتلك المرحلة من تاريخ المغرب المعاصر. وفي المقابل لذلك هناك من يريد أن يقدم له التاريخ أوسمة الإشادة بدوره في مساعدة المستعمر، والتعاون معه، ويجمع جزاء الأجرين؛ أجر الاستفادة المادية التي تحصل عليها بفعل الوقوف في صف الغزاة المتسلطين، وبفعل تسلق أعلى المراتب في أجهزة الدولة بعد الاستقلال، وأجر غض طرف التاريخ وإغلاق عيونه وإخراس لسانه على قول تلك الحقيقة. رغم أن القانون يعاقب مرتكب الجريمة وكذلك من يسكت، ولا يقوم بالتبليغ عنها. إن من حق المدرس اليوم أن يعلن أنه لا يقبل أن تهان كرامته، ويرفع عقيرته عاليا ليصدح قائلا: إني أتبرأ من كل ذوي النفوس المريضة من هذه الحالات البئيسة التي تسمح ضمائرها – إن كانت لها ضمائر – بأن تخدش جمال وبراءة البراعم التي تحمل آمال وإشراقة مستقبل نحلم به ونتطلع إليه، ويرتكبون في حقها جرائم تخرجهم من الانتماء إلى هذه المهنة الشريفة، وترمي بهم في مستنقع البهيمية المتوحشة بعيدا عن حضن المجتمع الإنساني . يتبرأ معلمو ومدرسو الأجيال من أن يكون أولئك المرضى منتسبون إلى جسدهم الطاهر النبيل. ويقولون لمن يتسترون على نياتهم السيئة التي تسعى إلى امتطاء زلات بعض الذين تسللوا إلى تقمص أداور المدرسين، وأصابهم مرض عضال من الشذوذ وانعدام الروح وغياب الخوف من الخالق. علما بأن مثل هؤلاء يعيشون كالطفيليات في كل مكان؛ في الإدارات، والمعامل، والمنازل، و الفيلات، والأزقة، والأحياء، والقرى، والفنادق، والغابات، والطرقات، ولم تسلم منهم حتى المساجد والمدارس والجامعات. ولكن ألا يتساءل الناس عن هذا الهرج الذي يملأ إعلامنا؟ وهذه البهرجة التي تتوسل بكل ما تملك لتجعل من هذا المدرس موضوعا للسخرية والنكتة والنقد المبتذل أحيانا كثيرة؟ ألم يعد المدرس هو كبش الفداء، بل نعجة الفقير التي تمشي خلف القطيع، فتلتهمها الذئاب الشرسة؟ إن صحافتنا، وربما لعجزها عن الخوض في قضايا ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وسياسية وفكرية… عميقة، أصبحنا نجد كل صفحاتها مليئة بأخبار المجرمين والشواذ والمنحرفين، وقضايا التهريب والمخدرات والمتسكعين والمحاكم والاقتتال بين القبائل، وترقع بكل ألوان الخيط، مشاكل الفقراء والمهمشين والمحرومين… وعندما تريد هذه الصحافة أن ترفع من مستوى قضاياها ومواضيعها، فإنها لا تجد أفضل وأشهى من فئة مغلوبة على أمرها هي فئة المدرسين التي تحارب مصاعب الحياة وغلاء الأسعار وارتفاع نسبة القروض بلا اعتماد على طمع أو رشوة أو ابتزاز دون أن تجد من يلتفت إلى همومها، سوى هذه الزواحف التي لا تملك أن تتلمس بقامتها المنبطحة آفاق السماء ورحابة الكون، فتتخذ من هذه الفئة مطية طيعة لا تتسلح اليوم بالمشاكسة والرفض والغضب كما كانت في السابق. ولو بقيت هذه الفئة ملتفة على حبل الوحدة والتضامن حول نقاباتها المناضلة، لتصدت لما يلحقها من ظلم، ولامتنعت عن اقتناء هذه الجرائد التي لا تقرأ فيها سوى ما يحط من كرامتها. ولكن وبما أن هذه الفئة تسمح وترضى بأن تعيش على الكفاف، وتقضي إجازاتها – التي يعدها الناس بالساعة والدقيقة لكونهم يستريحون من ضجيج أبنائهم عندما يذهبون إلى مدارسهم، ولذلك فهم يرون أن عطل التلاميذ كثيرة وطويلة – داخل أسوار المدارس. في الوقت الذي ينعم فيه باقي موظفي الدولة بالكثيرة من الامتيازات والتفضيل. وها نحن مقبلون على العطلة الصيفية، وسنرى كم سيتكرم المسؤولون على التعليم بمنحهم الفصول الدراسية، كمقرات للإقامة ويبررون عدم توفيرهم لنفس ما يتوفر للقطاعات الأخرى كالمالية والأبناك والمطارات والصحة والسكك الحديدية والقضاء … بكثرة أعداد المدرسين. فالكثرة دائما قوة، إلا في التعليم فهي ضعف وعجز ومهلكة ! أفيمكن أن يقبل عاقل بهذا الوضع؟ وحتى الاقتطاعات التي تخصم من أجور المدرسين، يستفيد منها موظفو قطاعات أخرى ! فالسياسات والقوانين التي سنها قواد الاستعمار لازالت سارية المفعول. فبأي وجه حق ينعتون بالخونة، وأفكارهم التي أشاروا بها لازالت حية ترزق !! إن المسؤولين على التعليم يتكرمون على المدرسين بالإقامة في حرم المدارس، وكأنهم يخافون بأن يخرجوا من جدرانها ويدركوا ما ينعم به الآخرون من عناية واهتمام وحرص، وربما يكون ذلك دافعا لإحساسهم بالضيم والظلم فينخرطون في ربيع الرفض والعصيان. إن المدرسين يقولون لمن يريدون ضرب المدرسة الوطنية العمومية، التي تعتبر مكتسبا تحقق لأبناء هذا الشعب بفضل تضحيات ونضالات باهظة جسام: "أعيدوا الصواب إلى نصابه والحق إلى أصحابه". وإن كنتم تريدون فعلا مستقبلا مشرقا لهذه المدرسة التي أصبحنا نذرف الدموع على ماحل بها من حيف وصغار، وما لحقها من ضيم وعار. لا تكتفوا بنشر الأرقام والأخبار حتى أصبح الطفل يخاف من الذهاب إلى المدرسة، وأولياؤه يضعون أياديهم على أفئدتهم ترقبا لعودة سالمة، وكأن فلذات الأكباد يتوجهون إلى ساحات الوغى والقتال. والمدرسين الشرفاء يتوجسون خيفة من أن يقال بأنهم يتحرشون أو يسيئون التأويل. لا يطالب أحد بالسكوت عن الإجرام والمجرمين. ولكن لابد في المقابل ألا نبخس عرق وقدر من هم عن الدنايا والتفاهات متعالون متنزهون. لابد من البحث أيضا عن الدوافع والأسباب، وكذلك الحلول التي تمكن من اجتثاث تلك الطفيليات ووقف زحف الرمال. إن أخوف ما يخافه المرء والمتأمل هو أن تكون هذه الهجمة الشرسة التي يتعرض لها الجسد التعليمي المترهل أصلا، بنيران عدوانية تريد أن تلقي بلائمة فشل السياسات التعليمية المتبعة، والإصلاحات المتعثرة على كاهل نساء التعليم ورجاله، وتبعد اللوم والمتابعة عن المخططين والمدبرين والمسؤولين الحقيقيين عن هذا الفشل. إن التقاط الأخبار ونشرها يعبر عن كون ثقافة أصحابها لم تتجاوز بعد مستوى ثقافة الأحياء الشعبية التي تتجمع فيها النسوة لتناقل أخبار الناس والجيران، والبنات والشبان، وأحوال الأسواق والأثمان. فكفى ما نحن فيه ولا تزيدوا الطين بلة ! وقد قال أبو حيان التوحيدي في مثل هذا السياق الذي لا يقدر العلم وأهله: "إن العلم – حاطك الله – يراد للعمل كما أن العمل يراد للنجاة. فإذا كان العمل قاصرا عن العلم كان العلم كلا على العالم. وأنا أعوذ بالله علم عاد كلا، وأورث ذلا، وصار في رقبة صاحبة غلا…" ولنا في قول الشاعر قديما: ما قد يخفف بعض مصائبنا، ويهون بعض أرزائنا إذ يقول: قل للذي بصروف الدهر عيرنا هل عاند الدهر إلا من له خطر أما ترى البحر تعلو فوقه جيف وتستقر بأقصى قعره الدرر