التادلي الزاوي: على الرغم مما نص عليه الدستور من إنصاف في الولوج إلى كثير من المهن ، ومن تكافؤ في الفرص بين المواطنين ، وعلى الرغم من تعبير المسئولين عن نوايا حسنة في تجاوز واقع الظلم الذي طالما تسبب في حرمان الكثيرين من حق التباري على الوظائف ، دون اعتبار للمؤهلات والاستعدادات ، فإن واقع تفعيل الدستور وتفعيل النوايا ، كثيرا ما اصطدم بعوائق وحواجز ذاتية وموضوعية ، نتيجة تحجر الرؤى وجمودها من جهة ، بحيث تؤخذ الأمور على حرفيتها أو شكليتها ، أو نتيجة الانفراد بالقرارات مهما كان وزنها وحساسيتها ، أو العجز والاصطدام على صخرة الواقع ، لينكشف زيف النظرية ووهم الإيديولوجيا ، وتننتج عن ذلك في النهاية ردود أفعال تؤزم علاقة المواطن بالسلطة باختلاف مجالاتها وطبيعتها . ولقد كانت تجربة الانتقاء الأولي لمباراة ولوج المراكز الجهوية نموذجا صارخا على ذلك ، بما سمحت به من وقوف على اختبار مستوى تنزيل مشروع المراكز في بدايته ، ومدى قدرته على تحقيق الطموحات التي عبر عنها ، ذلك أن مختلف وصلات الإشهار التي تابعها الشباب العاطل من حملة الإجازة ، بقدر ما رسمت أفقا جديدا للكثيرين ، ملؤه الأمل في القطع مع الممارسات السلبية التي كرست الفوارق وعمقت التهميش ، وهي تدعو إلى المنافسة على ركوب مهنة التربية والهروب من واقع العطالة القاتم ، فإنها أبانت بما لا يدع مجالا للشك بأن خطوات التنزيل تستوجب الحذر والتأني ، فضلا عن الانفتاح على كثير من وجهات النظر المخالفة ، لفتح الأعين على كل سلبيات المشروع وتحصين إيجابياته . إن اللغة الخشبية التي اعتاد هواة السياسة ومحترفوها أن يتخذوها وسيلة في إقناع خصومهم وتابعيهم، على حد سواء ، لا يمكن بأي حال أن تنفع في مجال التربية ، وبالأحرى في تدبير شؤونها ، ولعل تصريحات المدير المكلف بالوحدة المركزية تكشف عن شيء من هذا ، إذ في جوابه على أسئلة بعض الصحف الوطنية حول القيمة المضافة لإحداث المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين قال بأنها جاءت لتحقق استثمارا أكثر عقلانية للموارد البشرية .. وتكوين جيل جديد من المدرسين تتطابق كفاءاتهم مع أجود المقاييس الدولية …غير أن المطمح مهما بذا مشروعا ومطلوبا ، لن يكون قادرا على أن ينسينا آليات تحقيقه أو يعمينا عنها ،فالنقط التي اعتمدت معيارا أساسيا في الانتقاء الأولي لا يمكنها أن تعطينا محبا لمهنة التدريس ، بل إن هامش الاختيار حتى في الامتحان الكتابي والشفوي سيزداد ضيقا ، وبذلك سيتسرب إلى المهنة من لا يجد دافعا إليها سوى البحث عن لقمة العيش . إن الانتقاء الأولي في عمقه يهدف إلى اختيار الأجود والأكفأ ، باعتباره فرصة للوقوف على مختلف القدرات والمؤهلات التي يتوفر عليها كل الذين ترشحوا للمباراة ، ولذلك يستوجب الموقف إعمال المقاييس الدقيقة والموضوعية للتمييز بين المترشحين ، بما يسمح بالمساهمة في إنجاح المشروع ودعمه ، كما ينبغي شحذ كل الإمكانيات ليمر الانتقاء في أحسن الظروف ، بدء بالإعلان عن المعايير وإشهارها أمام كل المعنيين ، وتوفير الشروط الموضوعية للجميع وعلى قدم وساق ليلمسوا عن قرب صدقية الوزارة في ما ترمي إليه ، وترك فرصة كافية للجميع للتوصل باستدعاءات الحضور ، ولم لا إمكانية الطعن في النتائج اعتمادا على مبررات مقبولة ، إذ المرحلة تقتضي الشفافية والنزاهة ، ولا مجال فيها لركوب التبريرات الواهية والمحاولة اليائسة في الإقناع . فلقد اعتادت بعض المؤسسات العليا الجامعية أو غيرها كما هو معروف سابقا ،أن تشير إلى المعدل المطلوب للترشح لولوجها ، فتقصي ما تشاء قبل عملية الاختيار، بناء على النقط المحصل عليها، ولا شيء غيرها ،غير أن هذا ما لم يكن مطلوبا في مباراة المراكز الجهوية لمهن التربية ، و كان حريا بالمسؤولين أن يحددوا جملة من المعايير، يتم التصريح بها والاحتكام إليها، تحقيقا للشفافية المعتمدة كشعار في التدبير . وحيث أن ذلك لم يتم ، يحق للمرء أن يتساءل عن أي دور لرسالة التحفيز ، وهل تمت قراءتها ؟ ومن قرأها ؟ وكيف قرأها؟ وكيف وظفها؟ تلك أسئلة نعتقد أن لها وجاهتها للتمييز بين المترشحين ، لا سيما وأن النقط المعتمدة لا تستند لمعايير موحدة على صعيد الجامعات ، بل إن بيداغوجيا التقويم لم تكن يوما ما محط دراسة أو اتفاق ، سواء في بعدها النظري أو التطبيقي على الصعيد الأكاديمي المغربي ، وهذا ما يجعل المعدلات تتفاوت بين جهة وأخرى ، مثلما تتفاوت وتختلف مجالات التقويم وأبعاده ومستوياته وأهدافه بين جامعة وأخرى ، وأحيانا بين شعبة وأخرى . فبعض الشعب نادرا ما يحصل الطالب فيها على نقط تؤهله للحصول على الميزة ، في حين تمنح شعب أخرى نقطا عالية تؤهل طلابها للترشح لمختلف المباريات . إن اختلافات المترشحين المتعددة والتي تشمل زمن الشهادة العلمية ، ونوع الكلية والشعبة، وعدد النقط المحصل عليها ، وعدد الميزات ونوعها ، والسن، والأنظمة البيداغوجية ، فضلا عن الجامعات والجهات ، تستوجب اعتماد معايير أكثر دقة وقدرة على الإنصاف ، وهو ما لم يكن متوفرا لحد الآن ، بالرغم مما أشار إليه المرسوم المنظم للمراكز الجهوية في المادة 22، حيث أناط ذلك بالسلطة الحكومية المكلفة بالتعليم المدرسي . ولقد كان لغياب التدقيق في كيفية تنظيم الانتقاء الأولي أثر بين على النتائج ، بل فتح الباب على مصراعيه للتأويل المغرض في كثير من الأحيان . قد نلتمس عذرا للوزارة ، لو عبرت عن أن هذه أول تجربة ، وسيتم فيها اعتماد المعدلات معيارا وحيدا ، درءا لكل الشبهات ، غير أن هذا لا يحقق مطلب الكفاءات المعبر عنها والمطلوبة في مهنة التدريس ، مثلما أن عوامل أخرى ومتغيرات سيكشف الزمن عن أثرها السيء على التعليم ، حيث الشهادة العلمية مهما بلغت إذا لم تخضع للتحيين في معارف صاحبها وقدراته ، فإنها تصبح متجاوزة ، بل تشكل ضررا على المنظومة بكاملها ، وهذا معناه أن كثيرا من التخصصات التي سبق واستثنيت من ولوج التعليم ، ينبغي توسيعها ضمانا للمردودية ، وإلا فهاجس محاربة البطالة سيظل هو المهيمن ، وليس التنزيل الأمثل لمشروع إعادة النظر في التأهيل لمهنة التدريس ، لمواكبة مستجدات التربية وربح رهان المنافسة التي تحكم علاقات الأنظمة التربوية كونيا .