الحمامة البيضاء، التي خرطوا ريشها، غارقة بالماء. لا يفرق خالد القادم من خيريس هذا الصباح بين الليل والنهار. يوم غريب القسمات، الملامح، والألوان. عندما وصل خالد إلى مقهى "الزهراء، " لاحظ أن شيئا ما تغير في المدينة، لكن ماهو هذا الشيء؟.. تساءل في سره. لاحظ أن كل الزبائن صامتين. ففي الشهور الفائتة كانت المقهى لا تخلو من ض الضجيج، والنميمة، والكلام في السياسة. أما اليوم كأن طيورا عملاقة تقف على رأس كل زبون من زبائن المقهى. كان النادل ذو الوجه الكوري يقدم الطلبات من دون أن ينبس ببنت شفة، وهو الذي كان لا يتوقف عن الكلام، والضحك، و سرد بعض النكت الطريفة والماجنة. كان خالد راغبا في الكلام مع أحد، لكنه لم يعرف هؤلاء الزبائن كما لو أنهم هبطوا من القمر. أحس خالد بأن مذاق القهوة، التي طلبها بإشارة من أصبعه الذي وجهه كسهم في وجه النادل، ليس هو نفس المذاق، فلقد كان للقهوة، منذ شهور، مذاق حلو، أما اليوم فمذاقها غريب، مثل غرابة هؤلاء القوم. المطر لم يتوقف الليل كله. المدينة غارقة بالماء. لا أحد من الناس… أو من زبائن المقهى تكلم. أشار خالد بأصبعه مرة ثانية إلى النادل ذي الوجه الكوري، ففهم الأخير، أنه يريد تغيير كأس القهوة بشيء آخر، ربما عصير أو… لكن خالد كان يريد أن يسأله عن سر الليل الذي تحول – في هذه المدينة اليوم- إلى نهار، والنهار الذي تحول إلى ليل. لكن النادل لم يكن يملك الجواب، وأشار بأصبعه، هو الآخر، إلى السقف، ربما كان يقصد السماء. خرج خالد من المقهى. بعد نصف ساعة كان في الرينكون. هاهو الآن في " كوكودريلو". مائدة نزلت من السماء. من أنزلها؟ النادل، وليس المسيح. ثلاثة زجاجات بيرة باردة. نبيذ أحمر والماس صحون عامرة بالسمكات… وأشياء أخرى. وحيدا يشرب… يأكل وينظر إلى البحر، لا يهمه العابرون، ولا الشرطة، ولا ضجيج السيارات… في هذه الأثناء، مرت شابة جميلة ترتدي ثيابا خضراء مفتوحة، كان صدرها بضا، عيونها براقة، ووجهها مرصعا بلمعان حاد، فتذكر للتو سارة، تلك العاهرة الكولومبية، التي ضاجعها في نادي ليلي بخيريس، ثم فكر، شرب، وأكل، وتذكر سناء. ألو… ألو… هاهي سناء تدخل الآن إلى " كوكودريلو. سمكات أخرى ترقص على المائدة تأكل سناء بلهفة. أخيرا سيلاحظ خالد أن أحدا سيتكلم معه. قالت له سناء إنها خرجت للتو من الحمام، وعندما سمعت الهاتف يرن، وعرفت أنه هو لم تتردد في المجيء. خرجا من " كوكودريلو". كانت الخمر قد لعبت برأسه. فقط، الصمت. لم يضاجع سناء، كان يرغب في تقبيلها بعمق. منحها النقود فغابت كنجمة، فيما جلس هو في مقهى أمام البحر، تارة يتأمله، وتارة يحتسي قهوته السوداء الخفيفة، ويدخن سيجارة " روتمان" بنشوة، ويفكر في ما قاله له رفيق عزيز في خيريس: "إن أولئك السراقون، القتلة، يريدون لنا أن نكون صامتين، خاضعين، ليفعلوا في البلاد مايشاؤون". قلت في سري: " السراقون الرديئون"، ورحت ناحية البحر، فاتحا صدري العاري وأنا أقاوم الريح.