تعد مدينة طنجة تاريخيا، من أولى المدن المغربية التي عرفت دخول المقاهي لتتزايد أعداداها بالمدينة بطريقة قياسية، وأضحت وظائفها تتزايد وتتنوع، فلم تعد مجرد مكان للقاء واحتساء مشروب، بل أصبحت لها أغراض أخرى فرجوية وترفيهية ودراسية، وحتى غير قانونية. جولة بمقاهي طنجة، ستبرز وظائف هذه الأماكن العمومية بالمدينة، وستعرف القراء من خلال هذا الروبورتاج على أهميتها التي أصبحت قصوى في حياة الطنجاويين. مقاهي طنجة .. الاكثر والأشهر.. بين كل مقهى ومقهى بطنجة، نجد مقهى. هذه العبارة لا مبالغة فيها، ففي طنجة أضحت المقاهي مشروعا ناجحا، واستثمارا يحبذ الكثيرون أن يأتمنوا اموالهم فيه، متأكدون أنه سيعود عليهم بالربح السريع ، فلا عجب أن نجد في بعض الشوارع – وخاصة الاستراتيجية منها – أربعة أو خمسة مقاهي مصطفة جوار بعضها. غير أنها ليست كلها متشابهة، فقد جرت العادة في طنجة أن لكل مقهى ما يميزها ويكثر من زبنائها. ولا شك أن على رأس المقاهي الطنجية التي تستقطب الزبائن المخلصين لها نجد تلك المقاهي التاريخية التي لها مميزات خاصة لا يصادفها الزبناء في أي مقهى. مقهى الحافة .. جارة البحر .. في عام 1921، تم افتتاح مقهى تطل مباشرة على البحر، سميت لذلك السبب بمقهى الحافة (حافة البحر)، بنيتها غريبة، فهي عبارة عن مجموعة من الطبقات الصخرية، واحدة تؤدي إلى أخرى... في هندسة طبيعية نادرة. كل ما بهذه المقهى يدل على طابعها الشعبي البحت، من كؤوس الشاي الطنجاوي المنعنع والمنسم بأعشاب خاصة طيبة المذاق، إلى "البيصارة" التي اشتهرت بها هذه المقهى، وصولا إلى روادها الذين يحبذون عقد تجمعاتهم بها. شعبية هذه المقهى تعدت المدينة بل وحدود المغرب. حتى أصبحت معلمة من معالم المدينة. استقبلت هذه "الحافة" أدباء وفنانين عالميين من أمثال بول بولز ومحمد شكري وغيرهم الذين وجدوا فيها ضالتهم ومهبط الإبداع على جنبات زرقة البحر. مقهى الحافة الآن لم تعد كما كانت، بعدما اختلط الحابل فيها بالنابل، وأصبحت تستقبل بدون حرج مدمني الشيشة والمخدرات، حتى أنها صارت تمنع الاطفال أقل من 18 سنة من ولوجها، فلم تعد مكانا أسريا مفتوحا أمام الجميع. وافتقرت لجلسات الأدباء والفنانين وحتى السياسيين بين جنباتها. كثيرون يقصدونها بين الحين والآخر ليستمتعوا بمنظرها الجميل وامتداد البحر الذي لا ينتهي. وأيضا ليتحسروا على ماضي المقهى الذي لا يعود. مقهى باريس.. حنين لنقاشات السياسة والأدب.. أنشأ الفرنسيون هذه المقهى في الفترة الدولية لمدينة طنجة لتكون مفخرة لهم، ومكانا لتجمعهم، وساعد موقعها وسط القلب النابض للنفوذ الفرنسي قرب القنصلية الفرنسية على استقطاب نخبة المدينة وكبار الكتاب والسياسيين. فقد كانت نموذجا لمجالس الفكر والثقافة بمدينة البوغاز، وظلت كذلك على امتداد عقود من الزمن. فعل الزمان فعلته في مقهى "باريس الكبرى" كما كانت تسمى في أيام مجد ها. فبعدما كانت موطنا للنخبة، أضحت من الاماكن المشبوهة بالمدينة، إذ تحولت باحتها الخلفية إلى فضاء تقصده الداعرات وأصحاب الشهوات الذين لا يتورعون عن إجراء "مفاوضات" الليالي الحمراء أمام الملأ. لقد اضحت المقهى تستقبل جميع فئآت المجتمع الطنجي، وهذا في حد ذاته ليس عيبا، بل العيب أن هذه المقهى استبدلت الكتب والنقاشات السياسية بالكاراطا والنقاش حول "غلاء في السوق" ومصاريف الكراء وبوطاغاز وغيرها. لقد انطفأت شعلة الثقافة بهذه المقهى، لتفقد أبرز خواصها.
مآرب المقاهي: الليغا والضامة.. وحتى الدعارة. أصبحت آماكن الترفيه بمدينة طنجة، وخاصة خلال السنوات العشر الأخيرة، تتقلص بشكل مقلق. فالمساحات الخضراء والمنتزهات بدأت تتحول إلى عمارات، ودور السينما أصبحت تغلق الواحدة تلو الأخرى. وحتى إن فتحت فغن الأفلام المعروضة تجعل الناس يفضلون البقاء في منازلهم عوض التوجه إليها، لتبقى المقاهي ملجأ لطرد الهم وتغيير الأجواء الروتينية. مقاهي طنجة، ليس لها وظيفة واحدة، فهي ملتقى الأصدقاء، ومكان للتسلية حيث "البارتشي" و"الكارطا" و"الضاما" هي الألعاب الشعبية المفضلة، والمقاهي ايضا هي أفضل مكان يجتمع به الطنجيون لمتابعة مباريات كرة القدم وعلى رأسها مباريات الليغا والفريقان الذان يتقاسمان عشق الطنجاويين، ريال مدريد وبرشلونة، فمعظم ارباب المقاهي يعترفون أن الليغا ودوري ابطال أوروبا هما أهم مصادر مكاسبهم. متابعة مباريات كرة القدم في مقاهي طنجة لها سحر خاص، فهناك المكان الميثالي لكيل عبارات الاستفزاز للجمهور الخصم والاحساس بأجواء مماثلة لأجواء الملاعب.وحتى من أجل "التخاطيرة" أي الرهانات على مباريات كرة القدم. بالنسبة لبعض الشباب، فللمقهى دور آخر تسد به فراغ افتقار مدينة طنجة للمكتبات او لدور الثقافة، حيث تستقبل جماعات من طلبة الثانويات والطور الجامعي قصد المراجعة والتحضير للامتحانات والبحوث، وخاصة خارج أوقات الذروة، حيث يتجنب هؤلاء كثرة الضجيج داخل المقهى مقتنعين بأن الدراسة الجماعية – ولو في جو غير مثالي- أفضل من الدراسة على انفراد. لتلعب المقهى في هذه الحالة دورا كان لزاما على المسؤولين على قطاع التعليم والثقافة توفير اماكن أخرى له. ووسط أسف جل سكانة طنجة، أصبحت للمقاهي وظيفة أخرى تعد دليلا على تراجع القيم الخلقية بمدينة البوغاز. إذ أنها أصبحت تستقبل أفواجا من بائعات الهوى اللواتي يتخذن من المقاهي منطلقا لعملياتهن والتفاوض على تجارة الشهوة، في تواطئ صارخ من عدد من أرباب المقاهي الذين لا يتوانون احيانا في أخذ عمولاتهم من تلك الصفقات الملوثة. مقاهي الشعب.. حيث الشاي والحشيش والسمر.. تختلف مقاهي طنجة الشعبية عن نظيرتها العصريةبشكل كبير، وسبب هذا الاختلاف هو أن المقاهي الشعبية مفتوحة لكل طبقات المجتمع الطنجين وعلى رأسها الطبقة الكادحة التي لا تجد سوى المقاهي لتغيير الأجواء واللقاء بالرفقة . اجواء المقاهي الشعبية لها مميزاتها الخالصة وطقوسها الخاصة ، تتسيدها أكواب الشاي الطنجي المنعنع، المشروب الأكثر شعبية بمقاهي الشمال، لمذاقه الخاص من جهة ولثمنه المناسب لجيوب الجميع من جهة أخرى. وإلى جانبه تجد الألعاب الشعبية كالكارطة أو الضامة. وطبعا المقاهي الشعبية لا تعترف بقانون منع التدخين في الاماكن العمومية، فجل روادها من المدخنين، ليس للسجائر العادية فقط، بل حتى للحشيش والشيشة. المقاهي الشعبية بطنجة مكان للفرجة، فمن مباريات كرة القدم، والمسلسلات الأكثر شهرة التي تعرض على الفضائيات وتنقلها المقاهي، مرورا بجلسات السمر على انغام الموسيقى الجبلية أو موسيقى الراي، ووصولا إلى التحديات والمقامرات التي تشهدها بعض تلك المقاهي في غفلة من الأمن أحيانا قليلة وبتغاض منه في اغلب الاحيان. كل ذلك يجعل من المقاهي الشعبية انعكاس لصورة الطبقة المسحوقة التي لا تعرف غير المقاهي مكانا للترفيه. "الكامريرو".. نجم المقهى الصامت.. النادل أو الكماريرو كما ينادى عليه بمدينة طنجة، بطل قصة المقاهي الطنجية بلا منازع، رغم أنه يشتغل في صمت. النادل مهنة بسيطة ربى بها الكثيرون أبناءهم ، وتابع بفضلها الكثيرون دراستهم. مهنة تتطلب الكثير من الخفة والبشاشة والاتقان. والأهم من هذا وذاك الكثير من الصبر. "محمد العربي"، في الخامسة والثلاثين من العمر، متزوج وأب لطفلة. يتقاضى من عمله كنادل بإحدى المقاهي المحترمة -على حد وصفه- مبلغ 2000 درهم، ويقول إنه قانع براتبه، خاصة وأنه يدعمه ببعض البقشيش الذي اعتاد الطنجاويون على منحه للنادل حتى غدا من سوء الأدب أن لا يمد الزبون للنادل بضعة دراهم، شكرا له على خدماته من جهة، وتدعيما لراتبه البسيط من جهة أخرى. ويؤكد "محمد العربي" أنه يستطيع تدبير أموره براتبه وب "البروبينا" كما تسمى بطنجة، على أساس أن تبقى حياته بسيطة كما هي رغم كونه يفكر في مستقبل ابنته المقبلة على ولوج المدرسة وما يرافق ذلك من مصاريف. عن مهنته يقول "محمد العربي" إنها مهنة "الصبارين" لأن النادل يلتقي على امتداد اليوم أصنافا من الناس، منهم البشوش الحسن المعاملة ومنهم المتعجرف المتعالي، وهذا النوع الأخير، يقول "العربي" إنه عانى من معاملاته القاسية كثيرا. فالبعض يعتبر النادل مجرد خادم يؤمر لينفذ ولم لا ليشتم ويستهزأ به ما دام جل أرباب المقاهي يرفعون الشعار الغريب المعروف "الزبون دائما على حق"، مما يعني تلقائيا، أن ضحية الاخطاء يكون هو النادل، سواء ارتكب تلك الأخطاء أم أنه براء منها. يقول محمد العربي، إن نادل مدينة طنجة يختلف عن النادل في مدن أخرى، ويبدو صاحبنا واثق مما يقول، وحجته على ذلك أن أجواء مقاهي طنجة أكثر إمتاعا من مقاهي باقي المدن، خاصة وأنها ليست مجرد مقاهي فقط، لكنها ملاعب مصغرة لكرة القدم، حيث الحماس والفرجة. ويبقى النادل الذي لا يلتفت الكثيرون إلى دوره الحيوي، "سيد المقهى الحقيقي"، وشخصا جديرا بالاحترام والتقدير. أليس خادم القوم سيدهم؟ !