إن الناس في عصور الظلمات كانوا يجهرون بآراء لا نستطيع روايتها في هذا الجيل، فهل يكون معنى ذلك أن القدماء كانوا أشجع ؟ وهل يكون معناه أنهم كانوا أبصر بمذاهب النفوس، وأقدر على تصريف الآراء؟ الواقع أن أرباب الفكر في هذا العصر أكثر نفاذا إلى الدقائق، وأعرف بشؤون المجتمع، وأهدى إلى أسرار المشكلات والمعضلات. بفضل ما أتيح لهم من وسائل الفهم والإدراك. فكيف يتفق أن يكون المحصول الفكري في هذا الجيل أقل من أمثاله فيما سلف من الأجيال ؟ أو كيف جاز أن يمر محصولنا الفكري بدون ضجيج يوقظ غافيات العقول؟ يرجع السبب فيما أرجح إلى ظاهرتين تتصل أولاهما بالقارئ وتتصل الثانية بالكاتب، وفي تفصيل ذلك أقول: كان القراء قديما من الخواص، أو خواص الخواص، بسبب شيوع الأمية، وبسبب غلاء المؤلفات، وندرتها في بعض الأحايين، فقد قضى ابن خلدون عمره وهو يتشوف إلى الاطلاع على جزء من كتاب الأغاني، ولعله قد مات قبل أن يظفر بما يريد. وحدثنا صاحب "الطراز" أنه عجز كل العجز عن الوصول إلى مؤلفات عبد القاهر الجرجاني في البلاغة، على أنه كان على جانب من الغنى والجاه، وعلى اتصال بجماعة من الأمراء في مختلف الحواضر الإسلامية وعرفنا فيما قرأنا أن بعض الباحثين كان يقصد مناسك الحج لينادي علنا في عرفات عن رغبته في اقتناء كتاب لم يستطع الوصول إليه برغم ما بذل في سبيله من عناء. هذا يؤكد أن القراء قديما كانوا من الخواص، أو خواص الخواص، وذلك هو السر في عدم تهيب المفكرين من إعلان ما يجول بصدورهم من آراء وأهواء، فقد كان المفكر يحادث قراءه كما يحادث أصفياءه، لثقته بأنهم فئة ممتازة تفهم عنه ما يريد بلا تزيد ولا تحريف، وذلك أيضا هو السر في أن تعابير القدماء تغلب عليها الصراحة. ويسود فيها الصدق، وقد توصم بالعري في بعض الأحيان. ولا كذلك القراء في هذا العصر، فهم يعدون بالألوف وألوف الألوف، فمن العسير أن يكونوا جميعا من الخواص وربما جاز القول بأن جمهرتهم من العوام، أو عوام الخواص، وهذه الحال تفرض على المفكر أن يحتاط في عرض ما يجول بصدره من آراء وأهواء، وذلك هو السبب في أن تعابير أهل العصر تعوزها الصراحة، ويقل فيها الصدق، ولا تخرج سافرة أو عارية، كبعض تعابير القدماء، وإنما تخرج ملفوفة في أثواب من الرمز والإيماء والتلميح، إن لم يحملها الإسراف في حب السلامة على التدثر بأثواب من المداهنة والمصانعة والرياء. فإن رأيتم جماعة من المفكرين يدورون حول أغراضهم في تردد وتهيب وإشفاق فاعرفوا أنهم يصانعون قراءهم "الألباء". واذكروا أنهم لا يملكون من حرية التعبير غير أطياف، وإن قيل وقيل بأنهم يعيشون في القرن الواحد والعشرين ! وهل كان التفاوت بين طبقات القراء هو كل ما يعوق الفكر في هذا الجيل ؟ هنا يجيء القول بالفرق بين حال الكاتب في هذا العصر وحال الكاتب في العصور الماضية. فالكاتب قديما كان في أغلب أحواله رجلا قليل التأثر بضجيج المجتمع، لأن آراءه لم تكن تصل إلا إلى جمهور ضئيل يعد أفراده بالعشرات أو بالمئات، ولأنه لم يكن يفكر إلا قليلا في التطلع إلى المناسب التي تفتقر إلى ثقة المجتمع، فأكثر المفكرين القدماء لم يكونوا رجال سياسة ولا رجال أعمال، فقد كان فيهم جماعات يعيشون في عزلة رهبانية ولا يهمهم غير التعبير عن أغراضهم بحرية وصراحة وجلاء، ولم يتعرض منهم للأذى والقتل غير من طاب لهم أن يواجهوا مشكلات السياسة أو معضلات الدين. أما الكاتب في هذه الأيام فله حال وأحوال. هو أولا رجل يخاطب الألوف وألوف الألوف، وفيهم أذكياء وأغبياء وأعداء وأصدقاء، وهو عن مراعاة أهوائهم مسؤول. وهو ثاني رجل يهمه أن يتمتع بحقوقه المدنية، وقد يتسامى إلى كبار المناصب، وذلك يوجب الحرص على مسألة المجتمع في أكثر الشؤون. الكاتب في هذه الأيام يعرف جيدا أنه يعيش تحت رقابة عنيفة من الدولة ومن المجتمع، وهو مقهور على مراعاة تلك الرقابة ما دام يتطلع إلى بعض المناصب العالية، وهي مناصب لا تمنحها الدولة إلا لمن يرضى عنهم ...المجتمع، وهنا يكون الخطر على حرية الفكر والرأي، ويكون الجحود لما وهب الله الناس من قلوب وعقول. والله الموفق 06/06/2012 محمد الشودري