في ليلة غاب عنها القمر، خرجت سلوى من بيتها بغرناطة. وشرعت تجري حافية القدمين لاترتدي سوى منامة شفافة تبرز مفاتن جسدها الأبيض الأسيل الخالب. لم يكن أحد يدرك مدى خطورة الأمر. فالطريق طويلة ومظلمة، ولاوجود سوى لكلاب ضالة، خاسئة ومكدودة من فرط النباح والتجوال بين الدروب الضيقة. الحق أن سلوى لم تشعر إلا بيده اليمنى الغليظة تنزل على خدها الأيمن، لطمة نزلت بشكل مباغت من العلو حولت وجهها إلى بقعة حمراء. لقد التصقت يده اليمنى الغليظة بخدها... أحست بدخان يتصاعد من جسدها وهي تجري من دون أن تلتفت إلى الوراء. كانت الكلاب الضالة حينئذ تختفي، لعلها تبحث عن مكان مظلم تنام فيه حتى يطلع نور الصباح وتعود مرة أخرى للنباح والتجوال بين الدروب الضيقة. وكان هواء ساخن يمر قبالتها من دون أن يشعرها بوجوده، لكنه كان لابثا في دماغها. وصلت سلوى إلى مخفر الشرطة، لاشيء سيثنيها عن إفراغ ما في جعبتها. من دون أن تحيي ضابط الشرطة الإسباني خوسي ، قالت: - جئت من بعيد، الطريق طويلة ومظلمة، رأيت كلابا ضالة، لم ألتفت إليها، واعترض طريقي هواء ساخن، مالبث أن سكن في دماغي، ها أنا أشعر به ينزرع في كل أطراف جسدي، ويسير بين نهدي، ثم يصعد على مهل إلى شعري الأسود الطويل الممتد إلى أسفل خاتمتي، ومع ذلك لم أعره عناية. لم يفهم الضابط ماتقوله هذه المرأة، قبض بيديه بتوتر على شعره الخفيف الطائر، وردد في سره: "لاينقصني إلا هذا... امرأة مجنونة".
حدجها بنظرة جلفة، و سألها بعنجهية: - ماذا تريدين؟ - لاشيء... - غادري المخفر الآن وعودين لحال سبيلك. - تذكرت... أريد أن أشتكي، سيدي الضابط، بزوجي. هاهنا توقفت عن الكلام، فكرت هنيهة، ساد صمت مخيف داخل المخفر. كانت الشرطة الإسبانية تزج بمهاجرين مغاربة وأفارقة في زنازين ضيقة، وباردة بالمخفر كالكلاب... وقالت من دون تحير: "إنه تاجر مخدرات". لم ينبس الضابط ببنت شفة، نظر إلى الفراغ. أحس بهواء ساخن يسري بين رجليه كثعبان، وزم شفتيه، ثم بعد هنيهة، ومن دون تفكير طلب من سلوى أن تمده للتو بعنوان بيتها. ففعلت. بقيت بمفردها في مكتب الضابط خوسي بالمخفر، أحست بأن شيئا غير عادي يتحرك في أحشائها، ربما من الذعر، أو من الجري... أومن تلك البقعة الحمراء الملتصقة بخدها الأيمن، شيء أشبه بوحش ملعون. لكنه لم يكن سوى ذاك الهواء الساخن. كانت رغبة سلوى تحقيق حلمها بالهجرة إلى إسبانيا. كان يعوزها المال. وفي مرات كانت تردد في سرها: " لعنة الله على الفقر". ولتهجر عليها أن تشبع شهية من سيهجرها. كانت الأيام تخبئ سرا دفينا لها. ففي يوم سبت، عاد كريم إلى بيته القديم بسانية الرمل للاطمئنان على أهله، قادما إليه من غرناطة، وقبل الدخول إلى بيته القديم صادف وجود سلوى التي كانت واقفة بباب بيتها المفتوح. كانت حسنة وفاتنة كالقمر، أشعلت في قلبه نار الهوى، ولم تعد تنزاح صورتها من أمام عينيه، ظل الوقت كله يفكر فيها إلى حد يخيل إليه أنه بجانبها ولا يفارقها البتة. كان يجد صورتها على جدران البيت، وفي الوسادة، وفي أكثر من مكان... مر شهر وآخر، فتوطدت علاقتهما الغرامية، يخرجان معا إلى بحر مرتيل، والرينكون، وفي مرة دعاها لتناول العشاء عند " ماكسيم"، والسهر ب " بيانو بار" بكولدن بيتش، راقها الحال لذلك كثيرا، وكانت في كل مرة يرغب في الخروج تكون سباقة كفراشة وفي أتم أناقتها لتكون معه. لم يكن أهل كريم يتدخلون في إبنهم، كانوا يتركونه على سجيته وحريته كمثل عصفور. وتعاظم الحب بين سلوى و كريم، وشرع يفكر في الزواج منها، إذ لم يبق له سوى أسبوع واحد ليعود إلى عمله في غرناطة. بقيت تنتظر. وكانت تحلم كل ليلة أنها بين ذراعي غرناطة وليس حبيبها. كانت غرناطة تفض ثغرها لاحتضانها، فتنتابها حالة من النشوة لا حد لها. وفي أوقات كانت تقول في سرها: " مللت من الانتظار... متى يعود كريم...". عاد كريم، وتقدم للتو لخطبتها وأقيم الزفاف واحتفل الجميع، ثم حملا متاعهما وسافرا إلى غرناطة التي حلمت بها في ليالي عدة. وبعد أن وصلت إلى غرناطة أوصد كريم عليها باب البيت. وراح لعمله في شركة إسبانية لتوزيع الكتب. لم تكن تخرج إلا مرة واحدة في الأسبوع. تحاصرها الجدران الأربعة من كل ناحية. حفظت عن ظهر قلب أفلام ومسلسلات إسبانية وتركية بليدة ومتخلفة. مات حلمها في المهد. ولم تحقق مرامها. مرة خرجت للتسوق، التقت ببيدرو. كانت تكابد الوحدة، والحرمان، فالعمل في الشركة يأخذ وقت كريم كثيرا. ومن أول نظرة سقطت في حب بيدرو. وفي أحد الأيام عاد كريم من العمل مرهقا... صادفها تتكلم في هاتفها الخلوي مع شخص غريب، انتزعه من يدها اليمنى فاكتشف رقما غريبا، ووقع على الأرض من فرط الصدمة. لم تكن المكالمة بريئة وصرخ في وجهها بكل قواه: " خائنة..."، ووضع يده اليمنى على جبهته وغرق في لجة تفكير بعيدة الغور. بدا على قسماتها انفعال غير عادي. وبسرعة نهض كريم ولطمها. في مخفر الشرطة... قالت سلوى للضابط خوسي إن زوجها اعتدى عليها واتهمته أنه " تاجر مخدرات". بينما كان كريم يفضض بمفتاح رمادي باب البيت ألقى عليه خوسي القبض. كان يراقبه... في مخفر الشرطة... أنكر كريم مانسبته إليه زوجته من اتهام. وقال في سره" آه...لو أمسكت بتلك الملعونة لحطمت رأسها ألف مرة ولن أندم أبدا". نصب محاميا. أجريت عليه خبرة طبية. تحرت عنه الشرطة الإسبانية. خرج كريم من مخفر الشرطة مكدودا كذبابة عاجزة عن الحركة. وبعد أسبوع عاد إلى سانية الرمل. كان الحي يعرف كعادته حركة... لاشيء تغير. شعر بحرارة في جسده، وعندما اقترب من باب البيت سمع ضحكات دينا جارته. كانت فتاة ساحرة، شعرها ممدود حتى أسفل خاتمتها، وعيناها عسليتان وشفتاها بملمس حريري. ما أكثر المرات التي تبادلا فيها القبلات في الحمام وفي غرفة النوم حين يكون المنزل خال من الأهل. رغب في أن يناديها لتنزل، لكنه تراجع، ثم قفل عليه الباب واختفى... بقيت سلوى تائهة في دروب غرناطة. وعندما أحست بالجوع راحت أمام منزل بيدرو... لتعيش بعد أن طردها بيدروككلبة في بيت القوادة فاطمة.