ثانيا: وقفها الأنموذجي «مدرسة التوعية الإسلامية» إن عطاء آمنة اللوه لم يكن مقتصرا على ما ألفته هي بقلمها، أو بثته في صدور طلابها وتلامذتها، ولكن عطاءها تجاوز كل ذلك، فكان إسهامها في النهوض بالعمل التطوعي، سمة بارزة في مسيرة هذه السيدة العظيمة، ولعل وقف دارها بطنجة أو قصرها الصغير كما وصفه صنوها المرحوم الشاعر إبراهيم الإلغي إحدى هذه الإسهامات، وثمرة من ثمرات التوفيق الإلهي لهذه المرأة. فما قصة توقيف هذه المكرمة ؟ لقد أوقفت المرحومة آمنة اللوه دارها في طنجة على الدراسات القرآنية، وحبسته الجمعية التوعية الإسلامية، لتخدم هذا المشروع، وذلك بعد مخاض طويل، تقول رحمها الله في رسالة لها مشهورة ومعروفة، قدم لها ونشرها الأستاذ عبد اللطيف السملالي – تحكي فيها رحمها الله عن كيفية انبثاق فكرة جعل هذا البيت بالذات مركزا للدراسات الإسلامية عموما بوالدراسات القرآنية بالخصوص، وكيف سلمته إلى جمعية التوعية الإسلامية، سنكتفي هنا بذكر مقتطف منها ما نصه: من مميزات الجلسات التي كانت تجمعني والأستاذ إبراهيم الإلغي أنها جلسات ذات نفع وفائدة بالإضافة إلى مسحتها الأدبية التي لم تكن تخلو من أبيات شعرية يرتجلها الإلغي للمناسبة. في إحدى هذه الجلسات وكانت في طنجة وفي هذه الدار بالذات، فاجأني بقوله: أتريدين بيتا في الجنة؟ أجبته وأنا :جذلى : ومن منا لا تتمنى أن يكون لها بيت في الجنة. حتى المكرمون في القرآن الكريم يتمنون ذلك، فهذه امرأة فرعون تناجي ربها: ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا في الجنَّةِ، قال والرضى باد على وجهه إن كنت تريدين ذلك حقا، فأوقفي هذه الدار أو قصرك الصغير هذا على القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، وبذلك تضمنين لنفسك بيتا في الجنة، وتؤمنين لنفسك صدقة جارية تنفعك في اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم (…) فوجئت بهذا الاقتراح، فقد استشعرت عظمة الفكرة، ولم أكن أنتظرها فكان تعليقي : نِعْمَ ما أشرت به عليّ (…) وقبل أن أُتمَّ كلامي، أسرع يقول: إذاً فأنت اقتنعت بالفكرة، فعلى بركة الله (…) كنت أعرف أنه قبل ذلك كان يسعى لتوظيف الدار – موضوع الوقف. في مشروع تجاري تعليمي يُدر علينا دخلا إضافيا، وكنت أعرف أيضا أنه كان يجري اتصالات مع ذوي الخبرة في هذا الشأن (…) وآخر من اتصل بهم بعض الإخوان العراقيين المقيمين في طنجة، من أجل الشراكة في مشروع مدرسي كان يخطط له بجد (…) ولكنه وبكيفية غير منتظرة، تخلى عن الفكرة فكرة التجارة، ولم يعد يهتم بها (…)». وهكذا وقفت المرحومة قصرها الصغير بعد أن أيقظ جذوة هذه الفكرة زوجها شاعر إلغ الكبير، الأستاذ إبراهيم الإلغي، بالرغم من الانتقادات والاعتراضات التي تلقتها من معارفها، إلا أن إصرارها على تنفيذ وصية زوجها لم تفارق بالها، ولم تبرح مخيلتها، فمضت نحو تنفيذ و استكمال إجراءات المشروع الخيري، شريطة أن يكون للدراسات القرآنية والإسلامية، شرط لم تحد عنه، ولم تتنازل عنه، وفعلا تم المشروع، وقبل تسليمه إلى «جمعية التوعية الإسلامية التي أشرفت عليه، بعد إصلاحه وإدخال التحسينات عليه سنة 1986 م. عقدت عدة اتصالات وباشرت استشارات كثيرة هنا وهناك مع علماء ومفكرين وخاصة مع معارفها، حول الخطوة التي ستخطوها ، وتستطلع أحوال الأشخاص الذين سيضمون أيديهم إلى يدها لإقامة صرح علمي شامخ يشع نوره على هذه المدينة، وكان العلامة عبدالله كنون رحمه الله هو المستشار الأمين الذي التجأت إليه، وما خاب من استشار وما ندم من استخار)، فأوقد ذاك العالم الجليل جذوة الحماس في نفسها، وأكبر عملها وحثها على المضي في مشروعها، مزكيا أعمال الجمعية المذكورة من خلال سعيها الحثيث إلى خدمة القرآن الكريم، ونشر قيمه، مثنيا على خصال أفرادها ونبل أخلاقهم. ومما جاء في رسالتها التي بعثتها إلى العلامة سيدي عبد الله كنون رحمه الله، ما يلي: «(…) صدقني سيدي، يُخَيَّل إلى أن ما حدث يوم السبت 7 رجب 1407ه الموافق 7 مارس (1987م) (يوم تدشين العمل في المنزل المذكور) قد غير مجرى حياتي، وطهرني من الأدران المادية، ويُخَيَّل إليَّ أيضا أن الأنوار الربانية قد أشرقت علي فمحت ما بالنفس الأمارة من ظلمات واكتسحت بوهجها المقدس بقايا حياة لاهية عابثة كانت ما تزال ترتع في ثنايا الأعماق (…) عشت لحظة من السعادة الحقة، ورشفت من رحيقها الذي أسكرني كما سكر بها قبلي أهل التصوف وهم يعيشون مراقي الحب الإلهي إلى حيث الوصول والفناء إلى حيث سدرة المنتهى.. {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} (…) إنني أطمع وأحلم، والحقائق وليدة الأحلام أن تكون هذه المؤسسة مصدر نور إسلامي يشع على هذه المدينة – طنجة التي أحبها زوجي كثيراً. أحلم أن تعيد هذه المؤسسة لتقاليدنا دورها ووهجها هذه التقاليد التي طغى عليها «التغريب» وجار عليها فاندثرت أو تكاد (…)». وإن كان التاريخ خلد السيدة فاطمة الفهرية مؤسسة جامع القرويين بفاس، فإن مكرمة السيدة آمنة اللوه باقية ببقاء قوله تعالى: ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ}. لم تكتف آمنة اللوه رحمها بتوقيف بيتها للدراسات القرآنية وللعلم الشرعي، بل قامت بإهداء مكتبة زوجها الأستاذ إبراهيم الإلغي إلى جمعية التوعية الإسلامية، التي تشرف على المشروع، حيث أسست مكتبة عامة لفائدة أهل العلم تحمل اسم (خزانة إبراهيم الإلغي)، وتتلقى الإهداءات من عدة جهات وهي مثال مشجع للمكتبات التي تقوم على الجهود الذاتية. لقد تخرج من هذه المعلمة العظيمة جم غفير من طلبة العلم، نهلوا من علماء أجلاء ومن شيوخ فضلاء، فمنذ ما يربو على ثلاثة عقود وهي تفرخ حملة العلم وحماته، ومن بين المتخرجين وهم كثر، نذكر على سبيل المثال لا الحصر: سعيد بوعصاب، والأستاذ عبد السلام بحرو، والمقرئ عبد الصمد حمدان، والأستاذ محمد اجحير، والأستاذ سعيد الوسيني خطيب مسجد سوريا، والشاعر بلال زروق، الذي كتب في رثائها قصيدة عصماء، – وقد كنت ممن شملهم هذا الخير -… وغير هؤلاء كثير. كانت رحمها الله شغلها الشاغل هو هذا المعهد الذي أنساها كل شيء حتى نفسها، وكانت آخر كلماتها مع السيد المدير المشرف على مدرسة التوعية الإسلامية الخاصة للتعليم العتيق، وهي طريحة الفراش بدارها بتطوان: «أوصيك أخي بالمعهد وبالطلبة خيرا. وبعدها بقليل لبت نداء ربها، فرحمها الله رحمة واسعة. أمينة الخير في ذاكرك أعتبر *** فأنت في الفضل عنوان له خبر أمينة الخير أنت المجد ننشده *** فيك الثناء، وفيك المدح يختصر فسل رباطا وبيروتا وما قد طبعت *** وسل تطاوين عن فخر له أثر وسل بطنجة عن دار قد احتسبت *** للعلم والفكر تلق الخبر ينسفر وخير ما يقتني الإنسان في غده *** إن ضمه في الممات القبر والحفر وقف على الخير لا تحصى جوائزه *** إن عدد الناس حر المال وادخروا عنوان الكتاب: المرأة التطوانية وإسهامها في البناء الحضاري والمعرفي الكاتب: كتاب جماعي الناشر: مركز فاطمة الفهرية للأبحاث والدراسات (مفاد) بريس تطوان يتبع...