المدينة العتيقة كنواة تاريخية لمدينة تطوان هي وليدة خمسة قرون من تاريخ أجيال متلاحقة تركت بصمات حاجياتها وطريقة عيشها. فخلال هذه الحقبة الطويلة لعبت الأحداث التاريخية والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتنوعة لكل فترة دورا حاسما في تحديد طريقة العيش وبالتالي أثرت بشكل كبير في المورفولوجية المعمارية التي حددت بدورها وبمرور الزمن تطور مدينة تطوان. تقع مدينة تطوان في أقصى غرب ضفة المغرب المتوسطية، على مبعدة حوالي أربعين كيلومترا من جبل طارق، بجوار وادي نهر مارتيل وعلى مسافة قصيرة من مصبه من السهل الصغير المتكئ على سفح جبل درسة بالمنحدر الجنوبي من سلسلة جبال الحوز، حيث تكونت النواة الأولى، تشرف المدينة على أراضي وادي مرتيل الخصبة الممتدة نحوها، قبالة المدينة تعلو مرتفعات غورغيز شامخة. انخفاض نهر مارتيل يفصل سلسلة جبال الريف عن سلسلة الحوز التي تشكل امتداداً طبيعياً لها، هذا الانخفاض العميق هو بداية الصدع الفاصل بين سلسلة جبال الحوز وبني حزمار والذي ولد شرق وغرب تطوان سهلين واسعين مسقيتين بشكل جيد في الحوز وأنجرة وودراس. هذا الوادي شكل منذ ما قبل التاريخ مكانا استوطنته شعوب مختلفة استقرت في نقط شتى من ضفتي النهر ولكن دائما على مسافة معينة من مصبه حتى يتسنى لهم اللجوء لهضبة من الهضبات في حالة هجوم أعداء محتملين قادمين من الساحل أو من الداخل. إحدى هذه الأماكن سفح جبل درسة، الذي نعرف بأنه، على الأقل، منذ نهاية القرون الوسطى المتقدمة، كانت هناك عدة معابد وقصر انبثقت بالقرب منها مدينة تطوان، التي عرفت حقبا متفاوتة الازدهار إلى أن تم تهديمها تهديما تاما في بداية القرن الخامس عشر. احتلال البرتغاليين لثغور عديدة بشمال المغرب وكذا وشاكة سقوط غرناطة في يد الملوك الكاثوليك خلال النصف الثاني من القرن المذكور سيؤسسان حدودا جديدة بين العالم المسيحي وذلك الإسلامي. وسيصبح غرب المتوسط منطقة استراتيجية تتجلى فيها المصالح المتناقضة لكلا الثقافتين. هذا الوضع الجيوبوليتيكي الجديد أعاد للمدينة القديمة الواقعة على سفح جبل درسة أهميتها العسكرية كحصن منيع في وجه الزحف المسيحي الذي كان يهدد مملكة فاس. بعد سقوط منطقة الجبال في يد الملوك الكاثوليك بسبب الصراعات الداخلية التي عرفتها مملكة غرناطة في سنواتها الأخيرة، قرر سيدي المنظري وهو من أسرة غرناطية مهمة كان أنذاك صاحب بينيار، هجرة المملكة النصرية. وقد وصل إلى شمال المغرب على رأس مجموعة من المهاجرين وحصل على إذن من السلطان لكي يستقر في المكان الذي كانت توجد فيه تطوان التي لم يبق منها سوى الأطلال. كان موقعا ذي امتياز خاص لأنه وفر الإطار الجغرافي المناسب بغاية الدفاع ووصول التموينات من ماء وأغذية. من جانب آخر فإن قربها من مملكة غرناطة كان حافزا بالنسبة لشعب لم يفقد الأمل في العودة لأرضه في يوم ما. سيدي المنظري كان من سلالة مجاهدة مثله مثل رفقائه مع الأخذ بعين الاعتبار انتماءه الطبقي الذي كان يجعله ذا سلطة عليهم، الاستقرار في أرض على الحدود لم يكن بالأمر الجديد عليه نظرا لتجربته السابقة في أحضان المملكة النصرية كما أن الإمكانيات التي وفرها له هذا المكان كانت كفيلة بجعله يحافظ على وضعه الاجتماعي في زمن شكلت فيه الحرب والغنيمة وسيلة حقيقية للعيش بالنسبة للنبلاء المقيمين في المناطق الحدودية. وقد انطلق المهاجرون الغرناطيون في إعادة تأسيس المدينة عبر بناء برج الغرنيط، وهي قلعة لازالت توجد أثارها بالقرب من سوق الحوت القديم والتي ستكون محورا مركزيا في شبكة دفاعية تعتمد على سلسلة من الأبراج المتلاحقة فيما بينها والمنطلقة من القصبة المشرفة على المدينة من سفح جبل درسة إلى مصب نهر مرتيل. وكان يقع في ضواحي برج الغرنيط ما ننعته اليوم ببلاد سيدي المنظري أو بالبلاد فقط أي النواة الحضرية الأولى للمدينة والتي كان يحدها في الغالب البرج نفسه غربا والغرسة الكبيرة شمالا والملاح البالي شرقا وأخيرا زنقة فندق النيار جنوبا. هذا ما سيتفق مع الوصف الذي يؤكد على أنه لحدود أواخر القرن الماضي كان بالإمكان تمييز أبواب المدينة الخمسة: باب سوق الحوت وقوس السفانجين وباب القيسارية وباب السلوقية وباب فندق النيار. هذه النواة السكنية الجديدة أصبحت وبشكل سريع مكانا لاستقطاب المسلمين الذين هاجروا بأعداد وافرة مملكة غرناطة بعد دخول الملوك الكاثوليك إليها. وقد صاحب هؤلاء عدد كبير من اليهود الذين استقروا شرق النواة المركزية المذكورة وهو ما نتج عنه حي الملاح السالف الذكر. وتمت إحاطة الغرسة الكبيرة شمالا وغربا في وقت لاحق فكان التوسع في اتجاه القصبة مؤسسا بهذا الشكل حي الطلعة. وقد لعب العديد من المسيحيين الذين أسرهم سيدي المنظري في غزواته لثغري سبتة وطنجة اللتين كانتا تحت الاحتلال البرتغالي دورا مهما في عملية البناء منذ المرحلة الأولى. فخلالها كان الجهاد ضد العدو المسيحي وما يتبعه من عمليات النهب هو الشغل المعتاد للمجاهدين الغرناطيين مؤسسي المدينة بل يمكننا القول بأنه كان النشاط الاقتصادي الأول خلال تلك السنوات ولكن ذلك لا ينفي كون أن هذا الجهاد كان بالدرجة الأولى للوقوف في وجه المملكات المسيحية الإيبيرية الزاحفة كما أنه كان فريضة دينية وأخيرا، ربما كان الطريقة الوحيدة لتعويض الهزائم المتكررة السابقة، ولم تكن الغارات تقتصر على مهاجمة الحصون القريبة وإنما كانت تستهدف مدنا على الساحل الجنوبي لشبه الجزيرة الإيبيرية وكذا المراكب العديدة التي كانت تمر قرب مضيق جبل طارق محملة بمختلف أنواع السلع، من هنا أصبحت القرصنة بالنسبة لتطوان وكذا باقي موانئ الإيبيرية شمال إفريقيا خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر تجارة مربحة بفضل الكمية الضخمة من الأموال التي كان يدفعها الرهبان المسيحيون المبعوثون من الضفة الأخرى للمتوسط بغاية افتداء الأسرى هؤلاء السجناء سيكونون إحدى العوامل المحركة للنمو الاقتصادي بالمدينة نظرا لكونهم سلعة ذات قيمة كبيرة في تجارة القرصنة ذات الأهمية القصوى في البحر المتوسط خلال العصر الحديث. ومع تكوين المدينة بدأت الأنشطة الاقتصادية تأخذ شكلا معينا، فالاستيراد والتصدير للسلع سيعطي مميزات تجارية خاصة للمنطقة منذ إنشاء جمارك سيدي المنظري في طريق نهر مرتيل، بهذا الشكل بدأ سكان المدينة أو أولئك الذين تربطهم بها علاقة في إدخال أنشطة اقتصادية واجتماعية ضرورية، فتجارة الأغذية والمواد الأولية كانت توجد في الأماكن المفتوحة القريبة من أبواب العبور إلى المدينة العتيقة ثم ستغير المكان مع امتداد هذه الأخيرة التي تحتاج من أجل استمرارها إلى سهولة عبور الأشخاص والحيوانات كما إلى اتساع يسمح بتجمع القرويين والسكان الذين يفدون على السوق. وفي ازدهار التجارة التي تلتقي حولها السلع الضرورية أوتلك الكمالية التي يقتنيها الميسورين فقط يصبح للتبادل التجاري بين سكان المدينة وأولئك الآتين من المناطق المجاورة أهمية بالغة. من هنا المدينة تمسي "سوق جبالة" حيث يأتي هؤلاء لبيع منتوجهم ولاقتناء المواد المحلية التي هم في حاجة إليها وغير المتوفرة في قبائلهم. انطلاقا من هنا سيكون نمو المدينة مطردا وذلك ليس فقط للإغراء الذي تمثله الظروف الأمنية الجديدة بالنسبة لسكان المناطق المجاورة ولكن خاصة بسبب وصول المنفيين الأندلسيين الذين سيتواصل وفودهم إلى طرد الموريسكيين الأخير من إسبانيا خلال فترة فيليبي الثالث. وسيقوم سكان تطوان باستقبال مهاجري شبه الجزيرة الإيبيرية الذي سيستقرون شرق وجنوب البلاد وهو ما سيعني امتداد المدينة في هذا الاتجاه لتشكيل حومة الرباط السفلي في القرن السابع عشر ستقيم أسرة النقسيس التي هيمنت على المدينة منذ أواخر القرن السابق في الموقع الذي كان يشكل آنذاك الحدود الغربية للمدينة حيث كان يستقر الموريسكيون الوافدون في أعداد متلاحقة من شبه الجزيرة الإيبيرية. وستصل تجارة القرصنة إلى أوج ازدهارها في هذه الحقبة ولكن نكسة أسرة النقسيس ستعطي بداية أفول هذا النشاط بتطوان حيث أن السلطان سيسيطر على مواردها سيطرة تامة وعلى عاملها الرئيسي المتجلي في إثراء أصحاب القوارب والبحارة وهو ما سيعني اندثار هذه السوق التطوانية النشطة والتي ساهمت في تكوين غنى المهاجرين الأندلسيين. ورغم أن نهاية القرصنة كانت سببا في ضعف الاقتصاد التطواني فإن أنشطة صناعية أخرى ساهمت في إنشاء تجارة نشطة ومهمة مما ساعد في نمو المدينة. فصناعة الحرير كانت تحظى بأهمية كبيرة في تطوان بسبب سياسة التقييد المتبعة من طرف الملوك الإسبان حيال هذا القطاع بعد طرد الموريسكيين من أراضيهم. فوجود القرمز في جبال الحوز والذي كان هذه الصناة على اعتبار وجود المادة الأولية وكذا اليد العاملة الخبيرة. بجانب قطاع النسيج فإن قطاعاً آخر يستعمل كمادة صابغة، كان سببا كبيرا في ازدهار سيكون له دور كبير في هذا النمو، إنها صناعة الأسلحة . فمجموعة الصناع المتفرغين لصناعة الأسلحة سيكونون أصحاب سلطة وشأن في الحياة العامة كما أنهم سيشتهرون بجودة منتوجهم. في منتصف القرن الثامن عشر بني الباشا أحمد قصره وكذا المسجد ومرافقه الأخرى في اتجاه شمال شرق البلاد، وهو ما أعطى زخما جديدا في طريقة نمو المدينة. وهكذا بقي السوق الفوقي منغلقا داخل المدينة العتيقة بينما فتحت المرافق الجديدة مساحة مفتوحة نحو الجنوب، الفدان. الكتاب: المدينة العتيقة في تطوان "دليل معماري" (بريس تطوان) يتبع..