من المعلوم أن المجتمع الغربي الحديث أنتج نسقا جديدا كاملا في التنظيم الاجتماعي، ومن أهم ما أنتجته الحداثة هو تطوير العمل المدني، وتحويله من مبادرات شخصية عفوية إلى عمل مؤسساتي منظم يتميز بالاستمرارية والفعالية، وحولت أيضا تصور العمل المدني ذاته داخل المجتمع إلى عمل عقلاني ممنهج له أهداف مرحلية واستراتيجية تساهم بفعالية في بناء مجتمع المواطنة والمساواة. تأتي هذه المقدمة المركزة للإشارة إلى افتقارنا في المغرب إلى مجتمع مدني فعال من جهة، ومن جهة أخرى إلى العمل على دعم الجمعيات المدنية الجادة لدينا وتأسيس جمعيات أخرى في شتى المجالات لتعزيز بناء شبكة من الجمعيات قادرة على تشكيل مجتمع مدني قوي وصلب وفعال ، في إطار تدعيم وتقوية صيرورة البناء الديمقراطي في بلدنا المغرب. في هذا السياق ارتأينا أنه من المفيد جدا تقديم نموذج من العمل المدني ممثلا في "تعاونية سوارا" (Suara Cooperativa) التي تنشط في كطالونيا بإسبانيا انطلاقا من عاصمتها "برشلونة". تأسست هذه التعاونية سنة 2008،ومنذ ذلك التاريخ تمدد وتنوع عملها بشكل كبير، وأصبحت تضم حاليا أزيد من 6070 إطار يعمل داخلها في تخصصات متعددة: باحثون ومؤطرون اجتماعيون،أساتذة، أطباء نفسانيون، إداريون، وغيرهم. من مجالات عمل هذه "التعاونية" مساعدة الأشخاص المتقدمين في السن، حيث تمكنت من تأسيس إقامات خاصة بهم في "برشلونة" وفي نواحي "كطالونيا" مثل "خيرونا" و"طارغونا" و"ليريدا" وغيرها، تقوم بتمويل كامل لبعض هذه الإقامات، وبعضها الآخر تساهم فيه السلطات المحلية بحوالي الثلث. كما أن لها روضات أطفال تستفيد منها غالبا الأطر العاملة داخلها. كما أطلقت مشروعا واسعا لإقامة مؤسسات حماية الأطفال الإسبان الذين تسحبهم السلطات من أسرهم التي تعاني من أزمات ومشاكل حادة، قد تؤثر سلبا على مسارهم الطبيعي في الحياة. كما وقعت قبل عشر سنوات اتفاقية مع بلدية "برشلونة" برنامجا يسمى اختصارا ب"برنامج ساد"( SAD) تعني (Servicio de Ayuda a Domicilio)، وهو مشروع واسع يشمل المدينة كلها لتقديم "خدمات المساعدة المنزلية" لصالح الأشخاص المتقدمين في السن الذين يعيشون وحيدين في منازلهم ويحتاجون لمساعدة اجتماعية تواصلية ومنزلية. هناك أيضا برامج تهتم بالأمهات المطلقات أو الأرامل وأطفالهن الصغار وحماية النساء اللائي يعانين من سوء معاملة أزواجهن. ابتداء من 2017 بدأت "تعاونية سوارا" في تأسيس وفتح مراكز في إقليم "كطالونيا" لاستقبال القاصرين المهاجرين إلى إسبانيا من المغرب ومن بلدان أخرى، إضافة إلى تجهيز شقق خاصة ببعض هؤلاء القاصرين الذين وجدوا صعوبات في الاستقلال المادي بعد بلوغهم عمر 18 سنة، وتسمح لهم بالسكن فيها مؤقتا ريثما يصلون إلى سن 21 من عمرهم. وهناك برامج مؤقتة تخص نزلاء السجون تساعدهم على الاندماج في المجتمع. أ خيرا نود أن نشير إلى أنه رغم طول هذه الفقرة نسبيا في التعريف ب"تعاونية سوارا"، إلا أنها تقدم ملامح نموذج مفيد لنا نحن في المغرب لما يجب أن يكون عليه "العمل المدني" ببلادنا المغرب، طبعا ليس الغرض هو التقليد والمحاكاة وإنها الاستفادة والاستئناس به والاستلهام قصد إبداع أساليب عمل مدني قادر على المساهمة في تطوير مجتمعنا.. في سياق زيارة "التعاونية" لتطوان، لا بد من الإشارة إلى أنها تحققت بفضل تضافر الجهود التي بذلها الأستاذ "ع. النبي سلطاني" منسق التعاونية بالمغرب والسيد "كمال بناصر" منسقها في الجانب الإسباني وكذلك أطر للتعاونية نذكر منهم السيد "كمال بنبراهيم" والسيدة (Lucia Lopez Oton)، حيث تم تنظيم زيارة "التعاونية" ممثلة في 20 إطارا عاملا فيها لمدينة تطوان شمال المغرب. استغرقت الزيارة مدة ثلاثة أيام، من الأربعاء 10 ماي 2023 إلى الجمعة 12 ماي. كان اليوم الأول للتعرف على المدينة ومحيطها الجغرافي والاجتماعي. وفي اليومين الباقيين تمت زيارة عدد من المؤسسات والمرافق ذات الصلة بطبيعة أهداف التعاونية من الزيارة. يوم الخميس صباحا تم لقاء بين أطر التعاونية وعمادة كلية الحقوق والاقتصاد بتطوان ممثلة في العميدة "ماريا بوجداين" وباقي أطر العمادة، وكان من أهداف اللقاء التعارف أولا ثم البحث عن سبل شراكة تخص مجال البحث العلمي والتكوين في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وانتهى اللقاء بالاتفاق على إنجاز مشروع شراكة في هذا المجال سيتم الحسم في صياغته النهائية في شهر أكتوبر 2023. وفي نفس اليوم مساء، تم اللقاء مع مكتب جمعية "الحمامة البيضاء" بتطوان المهتمة بحقوق الأشخاص في وضعية إعاقة، وتم الاتفاق على تسطير شراكة في مجال حقوق الإنسان وتدعيم بناء المجتمع الديموقراطي في إطار تشخيص واقع حقوق الأشخاص في وضعية الإعاقة ودعمهم ماديا ومعنويا. في نفس المساء تمت زيارة معهد "طه حسين" للطلبة المكفوفين والاتصال بالهيئة المشرفة وهي المنظمة العلوية لرعاية المكفوفين، وتمت مناقشة سبل مساعدة هؤلاء الطلبة المكفوفين بالمعهد في إطار مدهم بالوسائل والأدوات التربوية والبيداغوجية خاصة ذات الطابع التكنولوجي والرقمي المتطور.. في صباح يوم الجمعة، انتقل أعضاء التعاونية إلى منطقة "البغاغزة" في نواحي تطوان، لزيارة الثانوية الإعدادية "ابن البناء" التابعة للمديرية الإقليميةبتطوان. تعرف أعضاء التعاونية على المنطقة جغرافيا وتاريخيا واجتماعيا عبر مكتب جمعية "آباء وأولياء التلاميذ" الذي استضافهم بكرم وبتقدير كبير، وعرفهم على مشاكل الجمعية وعوائق عملها. وتمت بعد ذلك زيارة مرافق المؤسسة التعليمية من مكتبة وملعب وأقسام، واللقاء ببعض الأساتذة، والتواصل مع عدد من التلاميذ للاستماع إليهم والتعرف على أحوالهم وقضاياهم. ولا يسع "التعاونية" إلا أن تتقدم بالشكر الجزيل والتقدير الكبير للسيد "يوسف أحزون" حارس عام لداخلي المؤسسة على المجهودات التي بدلها لإنجاح هذه الزيارة. وفي النهاية تم اللقاء مع مدير "المديرية الإقليمية" بتطوان الذي عبر لأعضاء التعاونية عن تقديره لزيارتهم ولحسن نواياهم، وتم الاتفاق على توقيع اتفاق شراكة بين الطرفين، وتسطير ورش عملي تربوي وبيداغوجي، في أفق السنة الدراسية المقبلة. وفي مساء نفس اليوم، تمت زيارة مؤسسة الأطفال المتخلى عنهم بجوار المستشفى المدني بتطوان، وعقد اللقاء مع مكتب الجمعية المسؤولة عنهم، في إطار التعارف والتفكير سويا في بناء شراكة تهدف إلى إنجاز مشاريع مستقبلية لصالح هؤلاء الأطفال المتخلى عنهم.