مشبال: أحمد الله على فشل المشروع التوتاليتاري لمنظمة "إلى الأمام"
تستضيف الجريدة، من خلال هذه السلسلة من الحوارات، المعتقل السياسي السابق محمد الأمين مشبال، الذي حكم عليه ب20 سنة، في إطار محاكمة الدارالبيضاء لسنة 1977، التي حوكم فيها 139 من النشطاء السياسيين المنتمين إلى تنظيمات ماركسية لينينية، كانت تروم تغيير النظام القائم بالعنف، وإقامة نظام جمهوري على غرار أنظمة "الديمقراطيات الشعبية"، التي كانت قائمة في أوروبا الشرقية وبلدان أخرى من قبيل كوبا والفيتنام.
في هذه الحلقات يحكي محمد الأمين مشبال تجربة استغرقت 14 سنة، ابتداء من خطواته في منظمة "إلى الأمام"، مرورا بتجربة التعذيب والانهيارات في المعتقل الرهيب مولاي الشريف والمحاكمة، وصولا إلى الصراعات السياسية داخل السجن، وتفاصيل الحياة اليومية داخل أسوار السجن. وبقدر ما تنقل لنا هذه الحلقات حجم المعاناة الإنسانية، فهي في الآن نفسه تكشف جوانب مهمة من تاريخ المغرب الراهن، ما زالت في حاجة إلى البحث والتمحيص. من ضمن وثائق الصراع ونقد التجربة القليلة التي عرفت انتشارا لدى الرأي العام ،ما عرف آنذاك ببيان العشرة ،.فهل من توضيحات حول سياقه وفحواه؟ يمكن القول أن سنة 1979 مثلت"ربيع القنيطرة" حيث عرف السجن نقاشات وانتقادات ومراجعات نقدية متفاوتة للتجربة وحتى للنظرية الماركسية اللينينية نفسها.في البداية حاولت قيادة المنظمة مسايرة النقاش وفتح بعض المجال للخلاف إلا أنها أحست بأنها إذا سايرت الموجة فقد تفقد الأغلبية ومواقعها فقامت بطرد الأغلبية الساحقة من أعضائها في 12 نوفمبر 1979 وكفت نفسها شر النقاش، أو على حد تعبير أغنية مغربية "هي بوحدا تضوي البلاد". في هذا السياق وكتتويج لوقفة طويلة أمام الذات وأمام التجربة شكل بيان القطيعة مع تجربة "إلى الأمام" الصادر في بداية 1980، رغم كل الثغرات أو الغموض الذي بقي يحيط ببعض القضايا البالغة الحساسية والأهمية السياسية مثل الموقف الصريح من قضية الصحراء المغربية أو النظام الملكي أو النظرية الماركسية اللينينية ، أهم وثيقة سياسية صدرت إلى حد ذلك الوقت حول تجربة "إلى الأمام"، سواء من حيث جرأتها على الصراع السياسي الجماهيري - رغم ظروف الاحتكاك اليومي داخل السجن - أو فيما يخص القطيعة مع تراث التجربة اليسارية. فقد تناول المحور الأول من البيان ظروف نشأة "إلى الأمام" ورأى أن أزمة الحركة "بنيوية لا ترتبط بالتوجهات الإيديولوجية والسياسية التي نهجتها فقط، بل ترتبط كذلك بوجودها وبطبيعة المشروع الذي طرحته على نفسها منذ قيامها". رأى البيان أيضا أن نشأة "إلى الأمام" ارتبطت بالظروف الاجتماعية والسياسية التي عاشها المجتمع المغربي خلال سنوات 1970 و 1973، والتي تميزت باحتداد التناقضات السياسية في البلاد، الأمر الذي جعل زعماء التيار اليساري يقدمون أنفسهم نتاجا لتلك الظروف وللمد الثوري. المحور الثاني من البيان حاول تقسيم فترات تطور "إلى الأمام" إلى ثلاث مراحل رئيسية (70-72) و (72-77) و (77-79) مثلت المرحلة الأولى فترة ازدهار تنظيمي وسياسي نسبي تزامنت مع إضرابات واسعة للطلبة والتلاميذ. أما الفترة الثانية فهي فترة التقهقر والتهميش والعزلة، زاد من حدتها التعامل الخاطئ مع بعض القضايا النقابية (رفض الوداديات والاستيلاء على الاتحاد الوطني لطلبة المغرب في المؤتمر الخامس عشر)، إضافة إلى التعامل مع قضية الصحراء. بالنسبة إلى الفترة الثالثة فقد عرفت تعمق التناقضات الصراعات الداخلية مما أدى إلى تشتتها ونهايتها. تناول المحور الثالث من البيان "طبيعة الفكر الإيديولوجي والسياسي لمنظمة إلى الأمام" ورأى أن المجموعة اليسارية "قديمة نشأت معها، وارتبطت بالمشروع ذاته؛ مشروع تحويل مجموعات طلابية إلى حزب ثوري يمثل طبقة العمال والفلاحين". فسر البيان النزعة المتطرفة واللاواقعية سياسيا لدى مجموعة "إلى الأمام" بتأثرها بالإديولوجيات المنتشرة في الوسط الطلابي آنذاك كالفوضوية، علاوة على طبيعة قطاع الطلبة والتلاميذ من حيث انعدام الاستقرار الاجتماعي و الهامشية في علاقته بالإنتاج (صغار السن وضعف التجربة الاجتماعية) مما يجعل تعاملها مع الواقع تعاملا ثقافيا.وانطلاقا من ذلك تم استنساخ نماذج ثورية جاهزة سواء سوفياتية أو صينية، ولا أدل على ذلك من نظرية "القواعد الحمراء المتحركة" التي تمثل نسخة معربة من تجربة الشيوعيين الصينيين. إضافة إلى التعامل الثقافي مع الواقع المغربي، فإن الخط السياسي لحركة "إلى الأمام" سريع التأثر السطحي بالأحداث السياسية. وكان من آخر تلك الإنتاجات "نظرية الثورة في المغرب العربي" التي أبدعها خيال السرفاتي السياسي ومريدوه في زنازين السجن المدني بالبيضاء في أواخر سنة 1976.. ماهي نظرية السرفاتي؟ هذه النظرية ترى أن قيام "الجمهورية الصحراوية" خطوة أولى نحو تحقيق الثورة في المنطقة، مما دفعها إلى رفع شعار التركيز على العمل السياسي والتنظيمي في الجنوب المغربي تحضيرا لمباشرة العمل المسلح وضرب القواعد الخلفية للنظام. هذا التعامل الثقافي مع الواقع هو ما يفسر كثرة الحديث عن الاستراتيجيات والعنف الثوري وجعل شعار الإصلاح مرادفا للرجعية. أما المحور الرابع من البيان فقد عالج مواقف "إلى الأمام" من الأحزاب السياسية التي رأتها مسؤولة عن كل الانتكاسات التي عرفتها البلاد، وبأن قادتها كمشة من المحترفين السياسيين لا يعتبرون ولا يستندون على أية فئات اجتماعية. تناول هذا المحور أيضا قضية الصحراء داعيا إلى حل سلمي يخدم مصالح شعوب المنطقة من دون تحديد موقف صريح من أطروحة مغربيتها أو تقرير المصير. بالنسبة إلى المحور الأخير من البيان فقد تناول تعامل "إلى الأمام" مع تناقضاتها الداخلية، فأوضح أن إقصاء العناصر المعارضة أو ذات الرأي المخالف كان تقليدا راسخا وسبق نهجه في سنة 71-72 وبعد سنة 1977 تعاملت المنظمة داخل السجن مع العناصر المنتقدة على أنهم متشككون، وأن انتكاسة المنظمة هي نتيجة أخطاء فردية، لأن الخط السياسي بريء مما جرى، وأصبح ترويج إشاعات حول المعارضين (منهارين سياسيا، متفسخين أخلاقيا)، وعزلهم داخل السجن وتفتيش أمتعتهم ومقاطعتهم ثم طردهم من التنظيم الأسلوب الوحيد لمعالجة التناقضات الداخلية. ولولا ظروف السجن لتمت تصفيتهم جسديا. من هي العناصر التي وقعت ذلك البيان؟ البيان المذكور كان ثمرة نقاشات طويلة داخل وصراعات فكرية وسياسية داخل المنظمة بصفة عامة ،وتحديدا النقاش داخل مجموعة العشرة بداية سنة 1980.وقد تكلف المشتري بلعباس بصياغته ووقعه كل من المنصوري عبد الله وعزوز لعريش وعبد العزيز الطريبق والمرحوم أمناي ابراهيم وأحمد بوغابة وجمال بنعمر ويونس مجاهد واحمد حسني وعبد ربه.
هل تريد أن تلمح بأن المنظمة في نهاية المطاف كانت ذات منحى ستاليني؟ أنا لا ألمح بل أصرح إلى كون النهج السياسي لمنظمة "إلى الأمام" داخل السجن كان ستالينيا تمت ممارسة العنف الرمزي ضد المنتقدين إلى أقصى حد. بالله عليك ما هو الخيط الناظم ما بين ماجرى للمشتري والمنصوري داخل السجن المركزي بالقنيطرة، وعزل وتجويع من كل من موطا ابراهيم والمرحوم العربي العلمي بسجن شفشاون لتشبثهما بمواقف "23 مارس" ومغربية الصحراء؟ وما علاقة ذلك أيضا بعزل العناصر القيادية في "23 مارس" لأنها تبنت مغربية الصحراء داخل مجموعة 26 بالسجن المدني بالبيضاء؟.وكيف نفسر ما جرى في سجن شفشاون من محاولة منع مجموعة من المعتقلين ومن ضمنهم عبد ربه ويونس مجاهد وعزيز الطريبق وأحمد بوغابة وآخرون لا تحضرني أسماؤهم من إدخال الجرائد والاستماع إلى الراديو لان الاستماع إلى الموسيقى على حد تعبير عبد الرحيم الابيض أحد عتاة التنظيم بشفشاون "ترف برجوازي" والاكتفاء عوض ذلك ب"نشرة أخبار" يقدم فيها الرفاق الأخبار التي يرونها مناسبة ؟. ألا تجوز مقارنة ذلك بالتنبؤات العبقرية بشأن العالم الشمولي لجورج أورويل في روايته الخالدة "1984"؟ أليس هناك تشابه إذا لم نقل تطابق مابين نفس التفكير والمسلكيات للحرس الأحمر بالصين إبان الثورة الثقافية،وبول بوت إبان حكمه الدموي في كمبوديا؟. إن ما جرى كان تجليات لمنطق أو على الأصح هلوسات امتلاك الحقيقة المطلقة. وفي الوقت الراهن نجده هذا المنطق الشمولي قد يتخذ لبوسا دينية أو عرقية أو غيرها حسب الأزمنة والسياقات الثقافية والتاريخية الملموسة. قد تتعدد التسميات والمسوغات لكن القاسم المشترك يظل واحدا ألا وهو وهم امتلاك الحقيقة المطلقة ،فيمارس أقصى الجرائم بشاعة دون أن يحس بأدنى وخز للضمير باسم الدفاع عن الدين أوالهوية أوالثورة أوالبروليتاريا. باختصار،إنه في نهاية المطاف نهج ومنهج لا يولد سوى التوتاليتارية وما يتبعها من كوارث إنسانية لا تحصى. وهنا وبالمناسبة تحضرني قولة لينين "إن الطريق إلى جهنم مفروشة بالنوايا الحسنة". فمما لاجدال فيه أن معظم مناضلي أقصى اليسار في السبعينيات قدموا تضحيات جسيمة وتعرضوا للتعذيب والاختطاف والسجون، لكن هذا لا يمنع من الجهر بأن مشروع "إلى الأمام " والتيارات الماركسية اللينينية آنذاك كان مشروعا توتاليتاريا في عمقه وأفقه لذا أحمد الله على فشله.
هناك مسألة مثيرة للتساؤل في تجربتكم وهي عدم قيام أعضاء المنظمة بمحاولة الهروب رغم المدد الطويلة المحكوم بها ؟ انطلاقا من تجربتي داخل السجن لمدة 11 سنة ،يمكنني القول أن التخطيط ثم تنفيذ عملية الهروب ليس بالأمر الهين ،لكن الأصعب من ذلك هو البقاء خارج الأسوار دون الوقوع في قبضة البوليس الذي سيقوم بمطاردة لا هوادة فيها للفارين. وبالتالي ينبغي التوفر على إمكانيات لوجستيكية كبيرة تتمثل في أماكن آمنة للاختباء ووسائل للتنقل وهويات مزورة...الخ .كل هاته الأمور كانت منعدمة بعد اجتثاث "إلى الأمام " و"23 مارس".
والتجربة الوحيدة التي تمت سنة 1979 كانت نهايتها مأساوية. كيف ذلك؟ في خريف 1979 وخلال إقامة كل من سيون أسيدون ونجيب البريبري (من مجموعة "لنخدم الشعب") وجبيهة رحال (من منظمة "23 مارس") في الطابق الخامس من مستشفى ابن سينا بالرباط ،حصل اتفاق فيما بينهم على تنظيم هروب جماعي من المستشفى. وفي الموعد المحدد للهروب من نافذة بالطابق الخامس ،تمسك أولا جبيهة رحال بالحبل الذي سيوصل إلى الطابق الرابع ومن ثم يتم التسلل خارج المستشفى عبر السلالم.بيد أن بعد نزول عشرة الأمتار الأولى توقف قلب المرحوم جبيهة رحال عن الخفقان وإلى الأبد. والغريب في هاته الواقعة هو تمكن كل من أسيدون والبريبري بعد ذلك مباشرة الهروب من إحدى الأبواب،ثم توجها إلى منزل صيفي بشاطئ المحمدية يمتلكه أحد أقارب أسيدون ،لكن البوليس سيعثر عليهما بعد مدة وجيزة .
هل كانت لمحاولة الهروب تلك انعكاسات سلبية على وضعيتكم في السجن؟ لا لحسن الحظ .فلقد بقيت المكتسبات التي حصلنا عليها قائمة: زنازن مفتوحة طوال النهار،التوفر على الراديو،زيارة العائلات مباشرة بدون شباك، متابعة الدراسة والتوصل بالكتب والمجلات...الخ. لكن بالمقابل ضاع مكسب مهم للعناصر القيادية تمثل في فقدان جناح الاستجمام بالطابق الخامس بمستشفى ابن سينا. جناح لعلاج المرضى أم للاستجمام؟ شكليا وقانونيا كان الجناح الموجود بالطابق الخامس بمستشفى ابن سينا مخصصا لاستقبال وعلاج المعتقلين السياسيين الذين يكونون في حاجة إلى إجراء عمليات جراحية أو تستدعي وضعيتهم الصحية الاستشفاء هناك.لكن ما حصل في الواقع هو أن أغلب الافرشة كانت تحجزها عمليا العناصر القيادية بدعوى "المهام النضالية" والتي كانت تندرج فيها اللقاء بالزوجات. وقد بلغت الوقاحة والأنانية بتلك العناصر حرمان معتقلين آخرين من العلاج كما حصل مع المرحوم البوحسن الذي كان يعاني من مرض "السينيزيت" وبحاجة عملية عاجلة ،لكنه ظل يعاني في السجن مما كان احد الأسباب في إصابته بالجنون الذي ظل يعاني منه سنوات طويلة بالقنيطرة.