تستضيف الجريدة، من خلال هذه السلسلة من الحوارات، المعتقل السياسي السابق محمد الأمين مشبال، الذي حكم عليه ب20 سنة، في إطار محاكمة الدارالبيضاء لسنة 1977، التي حوكم فيها 139 من النشطاء السياسيين المنتمين إلى تنظيمات ماركسية لينينية، كانت تروم تغيير النظام القائم بالعنف، وإقامة نظام جمهوري على غرار أنظمة "الديمقراطيات الشعبية"، التي كانت قائمة في أوروبا الشرقية وبلدان أخرى من قبيل كوبا والفيتنام. في هذه الحلقات يحكي محمد الأمين مشبال تجربة استغرقت 14 سنة، ابتداء من خطواته في منظمة "إلى الأمام"، مرورا بتجربة التعذيب والانهيارات في المعتقل الرهيب مولاي الشريف والمحاكمة، وصولا إلى الصراعات السياسية داخل السجن، وتفاصيل الحياة اليومية داخل أسوار السجن. وبقدر ما تنقل لنا هذه الحلقات حجم المعاناة الإنسانية، فهي في الآن نفسه تكشف جوانب مهمة من تاريخ المغرب الراهن، ما زالت في حاجة إلى البحث والتمحيص.
واستمرت حصص التعذيب؟ استأنفوا حصة التعذيب الصباحية بحماس وقوة. كانت قدماي تشتعل نارا، لكن حلقي الجاف وصوتي المبحوح جعلاني اكتفي بالتأوه. توقفت الضربات بعض الوقت ليربط أحدهما أصبع رجلي الأكبر بحبل رقيق حتى تكون الضربات أكثر إيلاما، ولينبهني: نحن لن نتوقف عن تعذيبك حتى تدلنا على سكناك، وإذا مت سنرمي جثتك للكلاب. بعد مرور نصف ساعة على الأقل، فكوا القيود من يدي ورجلي وأوقفوني.سذاجتي أوحت لي أنهم سيعيدونني للزنزانة، لكن احدهما أمرني بأن أمشي حتى يسري الدم مجددا، ليكون إحساسي بالسياط أقوى.لم أستطع المشي ،فساعداني على المشي ببطء.من تحت العصابة رأيت رجلي المنتفختين والدم يسيل منهما.أحزنني حالي لكنني كنت مصرا على أن أصمد حتى يمر وينقضي وقت موعدي مع المنصوري. وتواصل التعذيب؟ تواصلت الضربات غزيرة، قوية، ومعها أضحت حدة الألم لاتطاق.... بدأت تستسلم؟ بل إن ذاتي أخذت تتمرد على قناعاتي وتوجيهات المنظمة بالصمود إلى آخر رمق. بصوت يكاد يسمع نطقت: "سأدلكما على البيت". أوقف الجلادان عنايتهما بي. خيم الصمت هنيهات. شرع أحدهما بفك وثاقي. ساعداني على الوقوف، ثم لأمشي ببطء. كلمني أحدهما بتعاطف العقارب:"علاش أولدي كتبغي لراصك التكرفيص. راه في الصباح قلنالك راه الرجال بالشلاغم كيبداو يزاوكو ويهضرو".. وأضاف الجلاد القصير الذي كنا نلقبه ب"بينوشي" ساخرا:"أنتم تقولون الصمود ونحن وجدنا لكم الدواء وهو العمود".
إذن ذهبتم إلى سكناك التي توجد فوق السطح؟ وصلنا إلى المنزل بحي بوجلود. بعد تفتيش حوائجي عثروا على نشرة "إلى الأمام" وبعض التقارير وبطاقة هويتي الجديدة التي تحمل اسم عمر البوهالي. قبل المغادرة انقبض قلبي وأنا أسمع تاشفين يطلب تنظيم مداومة داخل البيت لاعتقال أي رفيق يدخله. اقتادوني مباشرة إلى الزنزانة التي كنت فيها منتصف النهار. أرجعوا يدي إلى الخلف ووضعوا القيد. لم تعد قدماي تقدران على حملي. جلست على الأرض. لسعتني البرودة. لم أبال لأن الألم كان أقوى.عدت للتفكير في أحداث يومي. فكرت في المنصوري: هل سيتوخى الحذر بعد أن لم يجدني في البيت أم سيعتبر أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد تأخر عرضي؟ تذكرت أمي. لابد أن خالتي أخبرتها بزيارة الصباح دون شك ستذرف دموعا ساخنة وهي تتذكر نصيحتها الدائمة لي بتوخي الحذر من المخزن والنار والبحر. قضيت معظم الليل ممددا فوق الإسفلت البارد، ثم جثوت على ركبتي ونهضت أجر قدمي بصعوبة لأتمشى عساني أتغلب على قساوة البرد، لكن جسدي لم يطاوعني فعدت لأتمدد عسى النوم يمنحني بعض الراحة، لكنه جافاني. مع اقتراب الفجر غالبني لساعتين وربما أقل أو أكثر. لا أعرف كم ساعات بقيت في الصباح جالسا ويدي مقيدتان إلى الخلف، أتذكر وقائع الماضي وأجتر هواجسي.. فجأة فتح باب الزنزانة فحبست أنفاسي توجسا من القادم. شعرت بيد تمسك رأسي وتزيل العصابة عن عيني.لاح أمامي ضوء عليل، وتبينت وجه الجلاد البدين. ابتسم مزهوا وقال لي :"اعتقلنا صديقك هذا الصباح". تمعنت في وجهه وقد انتابني شك، ثم سألته متوترا : - "ماهي أوصافه؟" - أجابني وهو واثق من نفسه: - "متوسط القامة ويميل إلى النحافة" أقفل الباب وتركني أقاوم شعورا بالذنب ظل يلاحقني. هل كانت تلك انطلاقة اعتقالات جديدة؟ لم تكن انطلاقة حملة اعتقالات وحسب بل نهاية للمنظمة. فلقد تم تعذيب المنصوري دون انقطاع من زهاء 11 صباحا إلى حدود الثانية ليلا، حتى أعطاهم عنوان البيت الذي يقطنه، فتم اعتقال أمغاغا المسؤول عن القطاع الطلابي بفاس، الذي كان بدوره مبحوثا عنه. وبعد انقضاء أيام معدودة سيتم اعتقال الصافي حمادي الذي سيقود إلى القبض على المشتري بلعباس الذي كان مبحوثا عنه منذ 1972 ومثل آخر عنصر من قيادة "إلى الأمام" التي كانت تتكون من السرفاتي وزروال والفاكهاني والمشتري" (وهو الوحيد الذي لا زال على قيد الحياة ويجتاز حاليا ظروفا صحية بالغة الصعوبة). اعتقال القياديين مكن من وضع اليد على جميع الوثائق والأسماء إذن؟ باعتقال المنصوري والصافي والمشتري، وحجز كل أرشيف المنظمة الذي كان يتضمن المحاضر والمراسلات وهيكلة التنظيم في مختلف المناطق، لم يجد البوليس صعوبة في اعتقال الأغلبية الساحقة من المناضلين لان مجال المناورة لم يعد ممكنا. إذ كان المطلوب من كل معتقل، حسب موقعه في الهرم التنظيمي، إعطاء عناوين محددة أو أسماء محددة، فأصبح مجال المناورة ضيقا، أما وهم أسطورة الصمود التي ساعدت على تفشي عقلية الهواية وضعف الإجراءات الاحتياطية، فقد ماتت ودفنت في درب مولاي الشريف. فبعد مرور أسابيع بدأت زنازن كوميسارية فاس تستقبل الوافدين عليها.إذ اعتقل الحلافي من تازة ومنير والدكالي والمرحوم مصطفى الخطابي والمرحوم كرطاط الغازي والمرحوم عبد العالي اليزمي والمرحوم البوحسن ورضوان ادريس ثم اقتادوا أحمد الطاهري من الحسيمة والطيار عبد الباري من زاكورة.