في اليوم العشرين من يناير سنة خمسمائة وستة عشر إبان الاحتلال البرتغالي للسواحل المغربية المعروفة علم ملك الدولة الوطاسية محمد البرتغالي بموت ملك قشتالة وأراغون " دون فرناندو "، الملقب بالكاثوليكي، بعد حكم دام أربعين سنة، فقرر على الفور مهاجمة أصيلا ومحاصرتها في فصل الربيع يوم "جمعة الالام" قبل يوم الفصح، وشجعه على القيام بذلك انتصاره الساحق على البرتغاليين بالمعمورة ( المهدية ) سنة خمسمائة وخمسة عشر، و توخى الملك من مجيئه هده المرة تنفيذ حيلة ومخطط رتبهما مند مدة مع أسيرات جبل حبيبيات موريسكيات[1] كن في ملكية الكونديزا والدة القبطان ببيتها، « فقد اتفق معهن على تسهيل فرارهن من خلال إشارة تتمثل في الهجوم على أصيلا في يوم معين، وقطع عمود العش، ثم إرسال عدد من فرسانه أسفل نوافذ غرفة " الكونديزا "، حيث تكون الموريسكيات في انتظارهم بعد نزولهن عبر النوافذ »[2] لتحريرهن ولينعمن بحريتهن، وقد « توسط في هذا الاتفاق رجل [ فكاك ] مسن ومحترم، اعتاد المجيء من فاس إلى أصيلا لتحرير الأسرى، وكانت " الكونديزا " تعرفه جيدا، وتستقبله في بيتها، وتأمر بأن يقدم له الطعام بجانب مائدتها، وتقوم بخدمته كل أسيرات البيت الموريسكيات »[3]، ومكن هذا الاتصال بين الرجل وتلك النسوة من تدبير عملية فرارهن، و « كانت المدبرة الأولى لذلك المخطط امرأة تسمى " ليانور رودريكش "، كانت وصيفة " الكونديزا "، ومربية حفيدها " دون فاشكو " »[4]، « وأهم خادماتها »[5]. وبالفعل هاجم الملك أصيلا بأعداد كبيرة من الفرق العسكرية المسلمة المحيطة بأصيلا من كل الجهات، وحقق ، ثم « قطع المسلمون عمود العش حسبما اتفقوا عليه مع الموريسكيات وانسحبوا في اتجاه وادي شرقان، مما أفرح الكوند لأن ملك فاس لم يلحق به أي أذى، رغم أنه قتل له ثلاثة أو أربعة من جنوده واستولى له على بعض الخيول[6] »[7]، وقد خيم الملك بوادي شرقان في انتظار « الموريسكيات الفاتنات الجمال »[8]، وقد قام " الكوند " بترتيبات احتياطية بالمدينة حيث علم أن الملك لا يزال بوادي أشرقان، وعاد لبيته لتناول آخر وجبة من وجبات ذلك اليوم المقدس مع عدد من النبلاء والفرسان، وقد « كان بيت " الكونديزا " وقتذاك كله حركة ونشاط، وأصبح غاصا بالنساء اللواتي كن يرقصن ويغنين، مما سهل مهمة الأسيرة الجبلحبيبية " ليانور رودريكش " التي رتبت الاتفاق المذكور مع المسلمين، وأشرفت على تنفيذه »[9]، وبعد أن « تسربوا من جهة معبر علي مكيك والقنيطرات »[10] وأحست بوجودهم أسفل النافذة « أخبرت شريكاتها فربطن حبلا من النافذة وأنزلن ابنها " فرناندو " أولا، ثم التحقن به، وحينما لاحظت الأخريات أن أمامهن فرصة الخلاص من الأسر (...)[11] ألقين بدورهن بأنفسهن قبل فوات الأوان، « مرتديات لباسنا »[12]، ف « انسحبوا من جهة واد لحلو »[13]، وتجاوزا العش[14]، وقد تعذر على الأسيرة " ليانور رودريكش " حمل ابن " الكوند " « في ذراعها لكونه كان في الثامنة أو التاسعة من عمره »[15]، أو « لكونه كان في نشوة الرقص مع النساء، وأنه رفض لذلك الذهاب إلى فراش نومه في ذلك الوقت المبكر »[16]، وبعد أن علم " الكوند " بفرار « أهم خادمات أمه »[17] خاف على جنوده من ملك فاس القريب منه، فمنعهم من الخروج والالتحاق بهن، « واستغرب سكان المدينة تصرف الموريسكيات رغم أنهن كن مفضلات ومقدرات، واستغربوا أكثر تصرف " ليانور رودريكش " المعروفة بتمسكها الكبير بالمسيحية »[18]، الأمر الذي جعل المؤلف ينكر عليهن ذلك ويتعجب منهن قائلا : « غرر بهن الشيطان، وزين لهن الالتحاق ببلاد المسلمين لاعتناق ملة محمد من جديد، والتنكر للعقيدة التي سبق لهن اعتناقها »[19]، وحيث يرفض دلك تعصبا لدينه لا أقل، بينما كان المسيحيون أشد ارتدادا عن دينهم كما قال هو بنفسه وهو يمدح الشيخ زيان أحد مجاهدي مسلمي بلاد الهبط وقتها : « فناوله – أي الشيخ زيان – أحدهم قربة خمر صغيرة كان يحملها، لكنه رفض ولو مجرد لمسها لتعارض دلك مع مبادئ دينه، وهو مثال يجب أن نحتذي به نحن المسيحيين، لأننا نغير قناعاتنا ألف مرة حتى ولو تعلق الأمر بمصلحة دنيوية تافهة »[20]، فلماذا يستغرب من الأسيرات التي رفضن البقاء في اصيلا مستعبدات وأن ذلك يتعارض مع دينهن، ولم لا يعودن إلى دينهن الذي يرى فيه هو تغريرا من الشيطان، أو ليس التغرير هو التبعية الدينية للآخر ؟ فعلى أي – وحسب المؤلف – ف « قد فرح الملك كثيرا لمقدم الموريسكيات لجمالهن »[21] و « أخبرهن أنه لم يأت إلا من أجل تحريرهن، وبأنه سيأخذهن إلى بيته في فاس إذا رغبن في ذلك، غير أنهن فضلن العودة إلى جبل حبيب، حيث ولدن وتربين، ولا سيما أن آبائهن وأمهاتهن وإخوانهن وأقاربهن جاءوا لإرجاع كل واحدة منهن إلى بيتها »[22]، وحسب صاحب حوليات أصيلا « أن الطمع أعمى الملك وقواده، فخص الملك نفسه ب " ليانور رودريكش " وبامرأة أخرى، بينما استولى ابن راشد [ المولى إبراهيم ] وقائد القصر الكبير على اثنتين لكل واحد منهما »[23]، ويقول المؤلف « قد تعرفت على إحداهن كانت من نصيب قائد القصر الكبير وتزوجها فيما بعد عيسى شقارة الفكاك[24] بتلك المدينة، وأحد أعيانها المحترمين، وتحدثت معهما في بيتهما مدة طويلة، وكانت تتكلم البرتغالية كما أتحدث بها، وعن طريقها علمت تفاصيل ما وقع، وقد رأيتها تبكي كلما ذكرت أمورا تعود للمدة التي قضتها في أصيلا، سمعتها تقول كلما ذكرت " الكونديزا " : " سيدتي الكونديزا قالت كذا، أو فعلت كذا "، كما أكدت لي أنها لم تعلم بمشروع اختطاف " دون فاشكوا " من قبل " ليانور رودريكش " إلا حينما كن في خيمة الملك »[25]، وقد استفسر الملك الأسيرات الجبلحبيبات « عن شخص وطبع الكوند " وعاداته »[26] وغيرها. وكانت " ليانور رودريكش " « قد زوجتها الكونديزا التي كانت تعطف عليها برجل طيب موريسكي يسمى" يوحنا كوتينيو " »[27] دون أن نقف على تاريخ زواجهما، والرجل مسلم متنصر من جبل الحبيب، وكان من عادة أصيلا أن تزوج المسلم المتنصر بواحدة من أسيرات غاراته على مسقط رأسه، وحيث تكون زوجته من اختياره أو من اختيار الكوند أو أمه الكونديزا له، وإرضاء وتشجيعا له من جهة، ورغبة في توريطه أكثر من خلال هدا الزواج مع أهالي مسقط رأسه حيث يصبح أعز ما يطلب من جهة ثانية، ثم إن الزوجات يتنصرن هن الأخريات. كما أن الرجل كان دليل[28] أصيلا في غاراتها على الجبل، وهو « أحد الموريسكين اللذين قتلهما " فاشكو دا سيلفا " [ المتنصر المسلم ] قبل أن ينهب المسلمون أصيلا بخمسة عشر يوما »[29] سنة ألف وخمسمائة واثنا عشر، وكان « يوحنا كوتينيو " اغتنى مما حصل عليه من غنائم وأسرى كثيرين، كما تم له حين الهجوم على الريحانة التي عاد منها بأكثر من مائة وعشرين امراة فاتنة الجمال »[30]، وغالبا ما يوكل مثل هاته الغارات والهجومات لأبناء البلد المتنصرين، ولم أقف على تفاصيل هذا الهجوم ولا تاريخه، كما أني لم أقف على هذا العدد من الأسيرات في غاراتهم على الإطلاق، وإنها لخسارة كبرى حقا، لكني أعتقد أن الأسيرات الست ضحيات هاته الغارة، خصوصا وأن كل الغارات التي وردت بحوليات أصيلا على قرية الريحانة وتفاصيل أحداثها ستقع بعد قصة النسوة هاته، أي بعد سنة ألف وخمسمائة وستة عشر. وعلى كل ف « بعد موت زوجها آوتها " الكونديزا " هي وابنها " فرناندو " »[31] في بيتها. [1] – موريسكياتmouriscos : مسلمات متنصرات . [2] – حوليات أصيلا ( 1508 – 1535 م ) ( مملكة فاس من خلال شهادة برتغالي )، برناردو رودریڱس B. Rodrigues، تعريب الدكتور : أحمد بوشرب / دار الثقافة، الطبعة الأولى 2007 م، ص : 155 [3] – نفسه، ص 155 [4] – نفسه، ص 158 [5] – نفسه، ص 159 [6] – نفسه، ص 159 [7] – نفسه، ص 158 [8] – نفسه، ص 158 [9] – نفسه، ص 159 [10] – نفسه، ص 160 [11] – حذف الأستاذ احمد بوشرب ما رآه في غير حاجة إلى ذكره، حيث لا فائدة تاريخية ترتجى، ولست أعلم إن اختصر ما يهمنا عن الحديث عن جبل الحبيب. [12] – حوليات أصيلا، ص 160 [13] – نفسه، ص 160 [14] – العش، في الأصل facho : وهو أحد المطالع بضاحية أصيلا، يكون على تل يسمح بمراقبة البادية، ومنه كانت تعطى إشارة لأصيلا وللموجودين خارج أسوارها، ولا يزال المكان محتفظا باسمه، والعش كما يقول الاستاذ أحمد بوشرب : عبارة عن قفة بدون قاع مربوطة مع بكارة لرفعها أو إنزالها حسبما هو متفق عليه، فإدا كانت القفة في أعلى العمود فإن دلك يعني أن المنطقة آمنة، أما إدا كانت في مستوى النصف فإنه يشير الى ضرورة العودة الى المدينة، وقد عرفت بوادي المسلمين نفس هاته الأعشاش تماما. [15] – حوليات أصيلا، ص 159 [16] – نفسه، ص 159 [17] – نفسه، ص 159 [18] – نفسه، ص 159 [19] – نفسه، ص 159 [20] – نفسه، ص 124 [21] – نفسه، ص 160 [22] – نفسه، ص 160 [23] – نفسه، ص 160 [24] – نفسه، ص 160 [25] – نفسه، ص 160 [26] – نفسه، ص 163 [27] – نفسه، ص 158 [28] – الدليل ( adail ) : قائد عسكري يوجه الجنود خلال الغارات التي تستهدف القبائل ويترأس الحملة في حال غياب القبطان، وأصل الكلمة عربي كما هو واضح، وقد اقتصرت مهمة الدليل بأصيلا على ظاهر البلد، لأن توجيه المشاركين في الغارات كان يوكل لأبناء المنطقة المتنصرين الدين توسع المؤلف في دكر منجزاتهم، أمثال المتنصرين من جبل الحبيب " يوحنا كوتينيو " و " أرتورو رودريكيس "، و " أنطونيو كوتينيو "، المتنكرين لعقيدتهم الخائنين لإخوانهم الملتحقين لخدمة البرتغاليين بأصيلا، طمعا في امتيازات تخول لهم، مقابل أن يقودوا المغاورين والجواسيس البرتغالية لقرى المسلمين، حيث كانوا أشد وأخبث على أهاليهم ابتداء وسكان الجبل، وقد شكلوا خطورة بالغة عليه. [29] – حوليات أصيلا، ص 158 [30] – نفسه، ص 158 [31] – نفسه، ص 158