قالت الأستاذة الزهرة حمودان، كاتبة مهتمة بقضايا علم الإجتماع، وباحثة في النقد الأدبي، إن لعاشوراء أواصر وروابط وطيدة مع مدينة تطوان. وتابعت أن هذه الشعيرة تتميز بأبعاد روحية واجتماعية في مدينة تلاحم فيها الأندلسي بحضارته المشرقية، وما يفد من المتوسط من انفتاح على حضارات ضفافها، وأردفت في هذا الصدد، "يقول الفقيه والمؤرخ الأندلسي عبد الملك بن حبيب الالبيري في إحدى قصائده: من بات في ليل عاشوراء ذا سعة/ يكن بعيشه في الحول محبورا". وإليكم نص الحوار: ما هي ذكريات طفولتك مع عاشوراء بتطوان؟ تحتفظ عاشوراء في ذاكرتي بنوعين من الصور؛ صور واضحة جلية، وأخرى نائية في منطقة ظل مبهم يلفها السؤال، ومن الصورالناصعة لموسم عاشوراء: حلوى عاشوراء أو حلوى العيد التقليدية، وهي حلوى تُسوَّق، يصنعها حلوانيون بالمواد الطبيعية غير المصنعة من لوز وزنجلان وكاوكاو وبذور الكتان، معطرة بماء الزهر. اللعب بعرائس تنوعها بعيد كل البعد عن ما أبدعته التقنيات الحديثة؛ حيث كان يوجد لهما نوعان فقط، نوع بشعر وهي أغلى، ونوع من دون شعر وهي غالب ما كنا نحن نحظى به أنا وأخواتي، وكان ذلك على مضض من أمي لأنها كانت ترى أنها حرام. كانت عرائسنا صامتة فكنا نكتفي بمتعة تغيرحركة رموشها حين نحركها بين أيدينا، فحين تطبقها نصيح هاهي نائمة، وعندما نجلسها تفتحهما فنصيح هاهي " فاقت". تتفرد مدينة تطوان بطقوس عديدة في مختلف المناسبات، ما هي الطقوس التطوانية للاحتفال بعاشوراء؟ مما أتذكره بوضوح، ويصنع لدي فرقا في الظواهر الاجتماعية بمدينتي هذه ( تطوان)، بعض المشاهد والروائح، يغلب تواجدها بمواسم معينة بما فيها عاشوراء وهي : صيام الخميس من ذاته، ويعني به الخميس الأول من شهر رجب، وصيام المعراج، وهو اليوم السابع والعشرين من شهر رجب الذيي يمثل ذكرى الاسراء والمعراج، وصيام النسخة أي يوم النصف من شهر شعبان، وكذا صيام يوم العاشر من شهر محرم أول شهر في السنة الهجرة، رغم أن دلالاتها لم تكن تصلنا نحن الأطفال آنذاك. ما المشاهد والروائح التي علقت في ذاكرتك بخصوص هذه الشعيرة؟ بالنسبة للمشاهد كنت أدرس بالمدرسة الابتدائية سكينة بنت الحسين، بحي الشريشار، فكنا نحن التلاميذ نمر بهذا الحي وأزقته، وآثار الدماء الطرية للدجاج البلدي الذي يذبح تعظيما لتلك الشعار، أما الروائح، فكانت الحريرة بسمنها وتوابلها ولحم الدجاج البلدي الذي يزيدها فخامة في مثل هذه الأيام، تستعصي على الأبواب المقفولة، وتتسرب إلى أنوفنا، وكلنا على يقين أنها ستكون باستقبالنا ببيوتنا. كانت الأحياء العتيقة للمدينة تعبق بها، فتنطلق في فضاءات المدينة أجواء يختلط فيها المادي بالروحي. كذلك حضور أطباق الفواكه الجافة، وبنات الحي مجتمعات يغنين ويرقصن على دقات آلات الإيقاع من "دربوكة" و "طار" و "تعريجة"، مما كان يهدى إليهن من أسرهن بمناسبة عاشوراء. شراء البخور كان يحضر بقوة أيضا، مع السلع التي تعرض في هذا الشهر، مع الند والعود، والكحل كما كانت "زنقة المقدم" تعرف اكتظاظا لا تعرف دكانينها – المختصة بهذه النوعية من السلع – عشره على طول العام. ومن المشاهد التي تدخل في هذا النطاق الروحي كانت هناك شعيرة خاصة تقوم بها الأسر التي فقدت أبناءها في مهد الطفولة، إذ كان يزدهر سوق الفخار بصناعة قلل صغيرة يشبه ما كان يستعمل لتبريد ماء الشرب قبل انتشار البرادات الصناعية الجديثة ( الثلاجات).كانت الأسر وعادة الأمهات يقتنين حسب مقدرتهن الشرائية، مجموعة منها، ويقصدن المقابر لتوزيعها على الأطفال هناك، انطلاقا من فكرة أنهم سيلاقيهن بها يوم القيامة، يوم العطش الأكبر. أما الصور التي ظلت غامضة في ذاكرتي إلى أن تدرجت في مراحل تعليمي فتتلخص في مواقف لم يكن عقلي يستوعبها حينذاك، منها مثلا؛ في شهر محرم الذي تجرى فيه عشيرة عاشوراء، لا يُشترى الجير ولا يستعمل، والمطلع على التاريخ الاجتماعي لمدينة تطوان يدرك ما للجير من قيمة جمالية تنظيفية ببيوتات أهلها. كذلك الحناء لا تستعمل في هذا الشهر، حيث كانت الأمهات يستعملنها لشعور بناتهن من باب العناية به، لأن الشعر كان يدخل ضمن زينة العروسة يوم زفافها. الأعراس هي الأخرى كانت لا تقام في هذا الشهر، ومما كان يذكره العوام في هذا الشأن : أن "الغيطة" حرام في هذا الشهر. وأن ما يعلق في رحم العروس في هذا الشهر يولد أخرسا. لكل منطقة مميزاتها في الاحتفال بالمناسبات، ما الذي يميز تطوان عن غيرها فيما يخص إحياء عاشوراء؟ تبدو لي نقطة تمارسها ساكنة شفشفاون التي أقمت بها لسنوات، وسمعت أنها يُعتنى بها بمناطق أخرى من بلاد المغرب، وهي الاغتسال الباكر يوم عاشوراء، لأن ماء زمزم يفيض ويجري في المنابع الحية لجميع مناطق الأرض، وهذا ما لم تحفظه ذاكرتي بالنسبة لمدينة تطوان. كذلك الأمر بوجبة الكسكس بذيل الخروف المقدد، ففي بيتنا كانت تحضر بهذه المناسبة، ولست متأكدة هل تحضر بباقي المناطق المغرب أم لا. كنا أنني لم أسمع قط بمدينة تطوان في طفولتي بما يدل عن وجود علاقة شعوذة بين شعيرة عاشوراء وطقوسها، كما نسمع اليوم. عاشوراء بين الأمس واليوم.. ماذا تغير؟ أظن أن الكلام عن شعيرة عاشوراء بموضوعية، ومنهجية، يحتاج معه الأمر لبحث مستقل يبرز فيه ما تداخلت معه المعتقدات والأفكار الخاصة، والأحداث التاريخية، وما تسبب في التأثير على ما يمكن أن نستدعيه جزافا ب " أسباب نزول عاشوراء " في تاريخ الشعائر الإسلامية، وليس هذا مجالنا الآن، وإن كان هذا المبحث أصبح معه الأمر ملحا؛ لأن سوق المعرفة الإلكترونية أصبح سهلا ومتاحا، وسلاحا في يد الأدعياء ومبشري المعتقدات الخاصة. كذلك الاعلام الصوري، ينشر صورا عن ممارسات عاشوراء، مختلفة عن ما عشنا عليه بخصوص عاشوراء.. وحتى لا أشطح عن الإطار الاجتماعي في أضيق نطاقه الذي بدأنا به حديثنا، أعود لأحصر الأمر في دور الصناعة والتكنولوجيا والعولمة في ما كان بسيطا وسهل الاستيعاب في زمن جيلي أنا؛ فالألعاب تطورت شكلا ومضمونا إلى ما يفوق الخيال، وبنات الحي شغلهن التيك توك، وأزرار قنوات الرقص والغناء، فعم المجتمع التطاوني شأنه شأن باقي المجتمعات الانسانية، نوع من التخمة، وإن كانت بنسب متفاوتة، حلوى العيد تاهت عن مواسمها، فظلت متربعة على سوقها طول العام. والدجاج البلدي استبدل بالرومي، والحبل على الجرار فيما تبقى. بصفة عامة ارتفعت سرعة وتيرة الحياة، وسيولة العرض والطلب، وتغير نظام البيت الأسري بخروج الأم للعمل. عادات جميلة وتقاليد دافئة انقرضت مع مرور السنوات بتطوان كما أن مناسبات عديدة فقدت طعمها.. ما السبب في نظرك؟ تطور الحياة والمجتمعات وتغير نُظم أنماط عيش الأسر، هي كلها بلا شك عناصر ظاهرة كونية، عرفتها الإنسانية منذ وجودها الأول، لكن انقراض العادات، وتركها للاندثار، هي عملية وأد للتاريخ الانساني ولمكون من مكونات لثقافة لشعوب. فالتطور أكيد لا يعني القطيعة مع ما قبله، فالثقافة إرث مادي ولامادي، يعتبر الشريان الذي يغذي التطور مع التلاقح والابتكار في الفكر والابداع . والمسؤولية هنا جماعية تشمل المؤرخ والأديب، والباحث الاجتماعي، وكل من يمتلك القدرة على التسجيل بالصوت والصورة والريشة، ثم المؤسسات التي تمنح هذه الاعمال حقها من الامتداد في الوجود.