إذا ذكرت المقامات في الأدب العربي قفز إلى الذهن في الحال بديع الزمان الهمداني المتوفى سنة 398ه والقاسم بن علي المعروف بالحريري المتوفى سنة 516ه. فهما اللذان جعلا لهذا اللون من الأدب مكانة معروفة وهما اللذان توفرت لهما العدة اللازمة لهذا اللون من سيطرة تامة على اللغة مكنتهما من التسجيع والتصنيع واللعب بالألفاظ، ومن قدرة على اختراع القصص وابتداع المواقف ومن ظرف ولطف ومن اتساع خيال حتى يتمكن شخص واحد هو بطل المقامات من أن يتخذ مظهرا بعد مظهر وصورة بعد صورة وأن يحتال حيلة بعد حيلة لاجتذاب فلوس الواقفين وعطاياهم وهم يعجبون بحيلته وبظرفه أكثر مما يتقززون من مكره ومن تكديته.
ذلك أن المقامات هي في الواقع نوع من أدب الكدية أو التسول وأمثلة على النثر المسجوع وعلى الأسلوب المصطنع الذي انتشر في القرن الرابع الهجري وأصبح هو الأسلوب الشائع المقبول في كتابة النثر سواء كان المكتوب توقيعات أو خطب أو مقالات أدبية، بل إن المؤرخين كتبوا تاريخهم بالسجع. خذ مثلا على ذلك مؤرخي صلاح الدين الأيوبي وكتابه وأصحابه وأهم هؤلاء القاضي الفاضل وابن شداد وابن العماد وعماد الدين الكاتب الأصفهاني صاحب"الفتح القسي في الفتح القدسي". وكان ذلك عصرا قد تحول فيه النثر من السهل السمح الرصين إلى المتصنع المسجوع وقد تبدلت الأحوال فوجد من المكدين، أي الذين يتكسبون بما هو أقرب إلى الشحاذة، نوع يتوصلون به إلى نيل العطاء ببيت من الشعر أو كلمات مرصونة مسجوعة.
قالوا جاء بديع الزمان فاخترع المقامات، والمقامة قصة قصيرة موضوعة بهذا الأسلوب المتصنع المسجوع ولها طابع تمثيلي أو دراماتيكي تقص حيلة من حيل مكد ماهر ظريف هو جواب آفاق عجيب التحايل والتخفي يخلب عقول الناس بمهارته اللفظية وبنوادره أو بظرف حيلته حتى يسبغوا عليه الدراهم أو الدنانير وعندئذ ينفلت هاربا ولكن قبل أن يذهب تنكشف شخصيته لراوي القصص فيؤنبه مازحا ويجيبه ضاحكا وهكذا تنتهي المقامة في بلد ما ثم نجد ان موضوع المقامة التالية بلد آخر ونجد بطل المقامات والراوي يلتقيان مرة أخرى وجها لوجه فإذا أنبه الراوي ضحك وقال:
أو أجاب بمثل ذلك: نعم هذا الزمان زور وتلك كانت الظروف السائدة. وبطل القصص جميعها عند بديع الزمان الهمداني هو أبو الفتح الاسكندري والراوية الذي يروي القصص ويصطدم بأبي الفتح الاسكندري في كل موقف أو في كل مقامة هو عيسى بن هشام. فمثلا في المقامة الاذاذية نجد عيسى بن هشام ببغداد وقت الأذاذ أي في موسم التمر. وها هو يحدثنا: حدثنا عيسى بن هشام قال: كنت ببغداد وقت الأذاذ فخرجت أعتام من أنواعه لابتياعه، فسرت غير بعيد إلى رجل قد أخذ أصناف الفواكه وصنفها، وجمع أنواع الرطب وصففها. فقبضت من كل شيء أحسنه، وقرضت من كل نوع أجوده، فحين جمعت حواشي الازار، على تلك الأوزار، أخذت عيناي رجلا قد لف رأسه ببرقع حياء، ونصب جسده، وبسط يده، واحتضن عياله وتأبط أطفاله وهو يقول بصوت يدفع الضعف في صدره، والحرض في ظهره:
قال عيسى بن هشام: فأخذت من الكيس أخذة ونلته إياها، فقال:
قال عيسى بن هشام: فقلت له: إن في الكيس فضلا، فأبرز عن باطنك أخرج إليك عن آخره. فأماط لثامه فإذا والله شيخنا أبو الفتح الاسكندري. فقلت: ويحك أي داهية أنت. فقال:
وفي مقامة أخرى يتعرض بطل القصة لرجل ساذج جاء إلى المدينة فيكتسحه اكتساحا بوابل من الألفاظ العذبة المسجوعة حتى يأخذه إلى حانوت شواء والرجل يظن أنه دعاه إلى الغداء حتى إذا أكلا وشبعا استأذن بطل القصة وخرج بحجة إحضار ماء بارد لهما، ولكنه في الواقع يجلس بعيدا بحيث يرى ولا يُرى. ولما استبطأه الساذج المسكين قام ليخرج فاعترضه صاحب الحانوت يطلب ثمن ما أكل: فقال القروي: إنما أكلته ضيفا. فلكمه لكمة وثنى عليه بلطمة ثم قال الشواء: هاك ومتى دعوناك.
وأخيرا يتمثل بطل القصة قائلا:
نعم – الإنسان يعجز لا مجال التحايل – هذا هو شعار بطل المقامات. وهذه هي المقامات: لون من الأدب له طرافته ولكنه ليس بأدب كل يوم ولا هو في متناول أي كاتب. قالوا ابتكره بديع الزمان الهمذاني وجاء الحريري فكتب مقاماته حاذيا حذو البديع ولكنه زاد في هذا التصنع وأفرط وأضاف إلى تصنع البديع تعقيدات في اللفظ والمعنى. وظلت مقامات الحريري قرونا طويلة نموذجا في اللغة والأسلوب أثرت في النثر العربي حتى عصر النهضة. أما كلمة مقامة فقالوا استعملت أولا بمعنى المجلس ثم بمعنى الخطبة أو الحديث الذي يقال في المجلس، واستعملت بمعنى الموقف يقفه الإنسان في مناسبة ما، ثم جاءت بهذا المعنى الذي نعرفه ولعلها القصة أو الحديث يرويه صاحبه وهو قائم أي في وقفة واحدة. والله أعلم. ولكن المقامات أدب تسول وحيلة وظرف وتصنع لفظي وتصنيع لغوي. *-..*-..*-..*-..* والله الموفق 2017-02-25 محمد الشودري