إن الحضارة البشرية تقدمت لكنها اصطحبت معها الصخب والضجيج في كل مكان وأصبح الهدوء والصفاء والنقاء مقتصرا على البادية فحسب – وإن كان هدوءا نسبيا إذا ما قورن بهدوء القرون الغابرة. لكن البادية بدأت تنحسر بسكانها وتتقلص بمساحاتها واستمرت موجات دافقة متوالية من البشر بالهجرة من البادية إلى المدينة، فكثرت المدن واتسعت وتعددت أحجامها وانتشرت في كل مكان. وفي المدينة وما حولها نجد مصادر للأصوات المختلفة وهي تتكاثر وتتعالى في المصانع والحافلات والقطارات والسيارات ومكبرات الصوت، وأصوات المذيعين والمغنين والخطباء.. ثم صفارات سيارات الإسعاف أو الأمن.. ثم الطائرات. فإذا ما هرب الإنسان من كل ما تقدم ولجأ إلى داخل البيت المنعزل "الآمن" هاجمته أصوات من نوع آخر لا تخلو منها أية دار عصرية. حضارتنا غدت الآن مجموعة أصوات مختلفة الأنغام والشدة: بعضها منتظم وبعضها مزعج ومنفر، لكن المحصلة الكلية خليط منكر من صخب وضجيج يحيط بالإنسان ويلاحقه حتى فراش نومه إن لم يكن حتى قبره. فماذا جرى للأذن البشرية وللدماغ المسكين وما هو تأثير الصوت على الجهاز العصبي والسلوك؟ ويتبادر سؤال ملح الآن: إذا كنا نعتبر الصوت غذاء ضروريا للعقل البشري والتجارب والمعرفة كما بيّنا، فلماذا نتبعه بالحديث عن أضراره؟ وهل له مضار حقيقية؟ ولماذا انعكست الآية في القرن العشرين بحيث اضطر الإنسان إلى النفور والضجر منه؟.. إن الصوت Sound, Voice بلغة علم الفيزياء ذلك الذي له صفة الانتظام وطابع الموسيقية أو التناسق. وارتفاع شدة الصوت Loudness يمكن أن يكون مصدر إزعاج وضرر. أما الضجيج والجلبة والصخب Noise فهي مجموعة أصوات "نشاز" غير منتظمة أو منسقة، وهي أيضا مزعجة وضارة للنفس البشرية واختلاط صوت بصخب يؤدي إلى صخب أكثر وأفظع وأمرّ، والذي يجري الآن في مدننا أن الإنسان أصبح مغمورا بالجلبة والضوضاء، وان الصوت المطرب أو الناعم أو المنسق الجميل لا يجده الإنسان إلا إذا قصده قصدا وبحث عنه في أماكن ومواقف ومناسبات معينة وهو ينشد الهدوء والسكينة. إن الإنسان المعاصر انتبه وأدرك بطبعه الأصيل وبدون نصيحة طبية أن الضجيج يثير أعصابه ويربك أعماله ويعكر عليه صفاء ذهنه وانسجام سلوكه، ويبعث فيه القلق والضجر والشقاء. ما هو رأي الطب وعلم النفس والاجتماع بصحة هذا الحدس؟
تشير الدلائل في قرننا هذا ال 21 إلى ظاهرة محيرة ومتناقضة، وهي أن الإنسان في مراحل تطوره الحضاري تعود دون أن يدري – وبالتدريج – على تقبل المزيد من الأصوات والنغمات ذات الشدة العالية فإذا به وقد أصبح "مدمنا على الضجيج. وهذه هي العادة المكتسبة من المدينة بحيث خيل للإنسان أن الصوت المرتفع ضرورة، وإذا به يتعود التحدث بصوت مرتفع وأنه يتحدث إلى ثقال السمع بينما هو يقارب ثقل السمع حقيقيا ! وقد كشفت الأبحاث الطبية والنفسية أن الأصوات العالية وكل ما يدخل في تكوين الصخب والضجيج تؤدي إلى مجموعة من التأثيرات الضارة على أجهزة الجسم ونفسية الإنسان. ويمكن تعداد وتلخيص مضار الأصوات الشديدة كما هو مبين أدناه وحسب تسلسل درجة علو الصوت بمقياس وحدة علو الصوت (ديسبيل) Decibel ابتداء من الرقم (30) وحتى ال (120) أو أكثر.
أ-استثارة القلق وعدم الارتياح الداخلي، فالتوتر فارتباك في الانسجام والتوافق الصحي المريح. ب-إذا كان الشخص من ذوي الاستثارة السريعة تحدث اضطرابات فكرية في قوى التركيز والتذكر وتوتر عضلي في الأجهزة الداخلية الحساسة وعلى الأخص أعضاء الجهاز الهضمي:المعدة والأمعاء، وكذلك جهاز الدوران والقلب والتنفس. ج-إحداث أضرار وتلف بطيء وتخريب في جهاز السمع، وهي الخلايا الحساسة في نهايات أعصاب السمع المرتبطة في الأذن الداخلية التي تنقل الصوت إلى الدماغ، وهكذا إلى حالة من نقل السمع البطيء السريان – وإلى الطرش. ولعل ثقل السمع الأولي هو الذي يدفع بالمصاب إلى الاستزادة من علو الصوت لعدم إدراك الإنسان أن سبب ثقل سمعه هو علو الصوت ذاته. وهذا يفسر ميله إلى التخاطب بصوت مرتفع كما يفعل ثقيلو السمع. د-يعتقد باحثون آخرون أن التخريبات الحاصلة في الأذن الداخلية أشبه ما تكون بالقروح التي تحدث في أجهزة أخرى. ه -إن خليط القلق والتوتر والصداع والأرق يضعف من مقاومة الإنسان الذهنية وعقيدته وتماسك شخصيته. و-إن التوتر العام المستديم يؤدي منطقيا إلى مضاعفات أخرى مثل القرحة المعدية أو الذبحة الصدرية.. وهذه تؤدي بدورها إلى مضاعفات أخرى..
هذه هي أضرار الأصوات العالية الصاخبة.. وتلك هي سلبيات الصمت والسكون الثقيل، كما ذكرنا في أول المقال، فأين يجد الإنسان راحته ويعيش نعيم أحاسيسه؟.. إن الإنسان اليوم – وهو الذي لا يستغني عن الصوت كغذاء حياتي وفكري – يعيش الآن بين نقيضين أو وجهتين: صخب وضجيج يقلق راحته ويخرب أعصابه، أو هدوء وعزلة قاتلة ثقيلة في مراحل الشيخوخة وفقد المعارف والأحبة أو بعد التقاعد، وفي كلتا الحالتين يتهدده شعور بالخطر الداهم على راحته النفسية وانسجام تفكيره وسعادته الدنيوية. إنه الآن موزع بين(ضروريات) الصوت الطبيعي وبين (كماليات) الصخب الحضاري المؤذي. لكنه بدأ يتململ ويستنكر ويثور ويتظاهر مع الجماعات الغاضبة ضد المطارات الضخمة التي تنطلق منها وتحط عليها الطائرات النفاثة الضخمة في أمريكا وفي المانيا الغربية وفرنسا واليابان.
لقد انتبه الإنسان أخيرا – دون تحريض الطب وعلم النفس – إلى أن ما اخترعه وأسسه وبناه بدأ ينفث سمومه وتخريبياته. وقد تجسد أمامه غول (تلوث البيئة) كحقيقة واقعة لا نريد الخوض في تفاصيلها. ويبدو الآن أن الصخب والضجيج هما أيضا من معضلات و(مخلفات) المدينة التي تهدد الصحة البشرية. ولعل من الطريف أن نستطلع حال الإنسان قبل آلاف السنين. فمنذ خمسة آلاف سنة مضت، وفي إحدى الحضارات البشرية العريقة في جنوبالعراق (سومر وبابل) تتحدث الحفريات الأثرية عن ذلك الإنسان الذي أزعجته المدينة بصخبها وضجيجها، وكأن سليقته وغريزته الصافية أرشدته إلى الآثار السيئة للأصوات الناشزة والعالية.
وفي ملحمة (اترا – حاسس) Atra-Hasis نعثر أيضا على قصيدة بابلية مطولة تتناول بالتفصيل خلق الإنسان وتسليط الآلهة – وعلى رأسهم الإله (نليل) – كارثة الطوفان والقحط والأمراض لإفناء البشر الذين (أقلقوا الآلهة بضوضائهم وصخبهم) على حد تعبير الملحمة.
ومع أن اصطلاح "الضوضاء والصخب" دليل على شرور الإنسان ونزاعاته.. إلا أن غضب الآلهة وإجراءاتهم بتقليل عدد البشر يدل أيضا على أن كثرة السكان هي من عوامل الصخب والضجيج الذي يقلق راحة الآلهة منذ بداية التاريخ المدون. وبعد كل ما تقدم أليس من المنطقي أن نتساءل أو نؤكد على اعتبار الضجيج والصخب جزءا من عوامل تلوث البيئة رغم كونهما مجرد ذبذبات صوتية ؟ ! انتهى *...*...*...* والله الموفق 2016-10-22 محمد الشودري Mohamed CHAUDRI