يقول علماء الآثار ان عصر النحاس لم يبدأ إلا حوالي عام 3.500 ق.م ومنهم من يقول انه بدأ في بوهيميا من أقاليم تشيكوسلوفاكيا اليوم، بينما يقول آخرون أنه بدأ بالفعل في مصر القديمة. ومهما يكن من أمر هذا الاختلاف في الرأي فإنه لا يغير من جوهر الموضوع من حيث أن المعادن أخذت منذ ذلك العصر تستحوذ أكثر فأكثر على ظروف حياتنا حتى صارت الآن العماد الأكبر في تكييف جميع مرافق معيشتنا ووسائلها. لقد كانت بريطانيا في أواسط القرن الثاني عشر أكثر بلاد العالم إنتاجا للمعادن ورغم ذلك لم تكن تنتج وقتئذ سوى 20 ألف طن من الحديد في العام، بينما هي وغيرها تنتج الآن أكثر من هذه الكمية في كل يوم من أيام السنة. قائمة الدول حسب إنتاج الحديد:
وما ينطبق على الحديد ينطبق أيضا على بقية المعادن فقد اشتهر الفينيقيون من ضمن الأشياء الكثيرة التي اشتهروا بها باكتشافهم "جزيرة القصدير" (أي انجلترا). وقد استخلصوا هذا المعدن من مقاطعة "كورنوول" ونقلوه على ظهور سفنهم إلى الشرق الأوسط. ورغم أن عملهم هذا يعتبر من أهم الأحداث في التاريخ فإن جميع ما استطاعوا نقله من القصدير طوال حقبتهم التاريخية الطويلة لم يزد على بضع مئات من الأطنان. أما اليوم فإن الصين وحدها تنتج أكثر من 115.000 طن من هذا المعدن.
إن اسم "الحداد" من أكثر الأسماء الشائعة بين الأسر عند جميع الشعوب والأقوام سواء في الشرق أو الغرب ومرد ذلك إلى أن "الحدادة" كانت من أهم المهن إن لم تكن أهمها في المدن والبوادي في قديم الزمان، ففي المدن كان الحدادون يصنعون خاصة الأقفال والسلاسل والأبواب والأواني والسيوف والخناجر والرماح. بينما في البوادي تخصصوا في إنتاج سكك المحاريث والمعاول والفؤوس وما شابه ذلك، بالإضافة إلى تثبيت النعال الحديدية على حوافر الخيل. ورغم أن الحدادة كانت مهنة فنية لا تخلو من مهارة فإنها كانت تنتقل من السلف إلى الخلف مثلها في ذلك كمثل معظم المهن الأخرى. فابن الحداد كان يتعلم هذه المهنة في ورشة أبيه بالذات وليس في مدرسة صناعية ثم كان يحل محله بعد اعتزاله العمل ولذلك كانت مهنة الحدادة أقرب إلى الفن من قربها إلى العلم.
وهكذا كان الحال بالنسبة إلى الصاغة، فكانوا ينشطون نشاطا عظيما كلما حل الاستقرار في البلاد واستتب فيها الأمن والسلم فيتهافت الناس عليهم ولاسيما النساء لاقتناء كل جديد يبتكرونه من حلي ومجوهرات ولكن ما ان تعود البلاد إلى حالة الحرب مع جاراتها حتى كانت حاجة الناس إلى الحدادين تزداد أكثر من حاجتهم إلى الصاغة، لأنهم أبرع منهم في إنتاج السيوف والدروع وما إلى غير ذلك من عدة الحرب. ولما كانت الحروب لا تكاد تنقطع بين شعوب العالم القديم وتنشب لأتفه الأسباب فقد ظل الحدادون يعملون في مهنتهم ينتجون وينتجون دون أن يواجهوا أي كساد في السوق.
زد على ذلك أن التفوق في الحرب على العدو يعتمد إلى حد كبير على التفوق عليه في السلاح ولهذا جاهد الحدادون في إنتاج أجود أنواع السيوف والرماح. ولعل الفضل في اكتشاف الحدادين المسلمين والعرب لطريقة خاصة لإنتاج الفولاذ أيام الفتوحات الإسلامية يعود إلى حرصهم على إنتاج أفضل الأسلحة المعروفة في ذلك الزمان وهو السلاح الأبيض القائم على السيف. والمعروف أن الفولاذ أشد صلابة ومرونة من الحديد، ولذلك كان في استطاعة المحارب المتسلح بسيف فولاذي أن يلويه بعض الشيء دون أن يعرضه للتلف، بعكس السيف الحديدي الذي إذا اصطدم بما هو أثقل منه وزنا تكسر إربا. وقد تمكن الحداد العربي بفضل إتقانه صنع الفولاذ واحتفاظه بطريقة هذا الصنع سرا حربيا أن يصنع سيوفا أشد مضاء وأخف وزنا من السيوف الأخرى مما جعل السيوف العربية تشتهر في ساحات الوغى وتطبق بشهرتها الخافقين. وصارت بلاد الشرق الأوسط والأندلس تصدر مقادير كبيرة من السيوف والخناجر إلى البلاد الأوربية.
وقد ظل الحداد يتمتع بشعبية عظيمة بين جميع الشعوب إلى أن حلت الثورة الصناعية في بريطانيا فغيرت معالم الحضارة الأوربية وقلبتها رأسا على عقب. وتطلبت هذه الثورة إنتاج مقادير أعظم وأعظم من المعادن وخاصة الحديد والفولاذ، كما فرضت وجوب تحويلها إلى مختلف الأجهزة والوسائل بنسب أعظم فأعظم. ولما كانت الحاجة تفتق الحيلة، فقد تمكن المخترع البريطاني "هنري بسمير" أن يبتكر في عام 1856م طريقة جديدة لتحويل الحديد الخام إلى فولاذ. وبعد ذلك بزمن قصير ابتكر العالم الألماني "سيمنس" طريقة لإنتاج الحديد بصورة أسرع من السابق. وما لبث أن سار آخرون من العلماء في الطريق الذي شقه هذان العالمان، فتوصلوا إلى ابتكار طرق مختلفة لإنتاج المعادن وصهرها بكميات كبيرة وبسرعة عظيمة. وهكذا تحول فن الحدادة والتعدين – بالتدريج – إلى علم قائم بذاته يعرف اليوم بعلم المعادن، وهو واسع كالبحر له علماؤه وخبراؤه وأساتذته وكلياته. انتهى *.-.*.-.*.-.* .-.* والله الموفق 2016-08-18 محمد الشودري Mohamed CHAUDRI