الكُتَّاب.. لِمَاذا يَكْتُبُون؟ كتب "جون وين" الروائي المعاصر وأستاذ الشعر في جامعة أكسفورد يقول: إن الكاتب يسهم في تقديم العون إلى المجتمع حتى يتفهم ذاته ويفهمها، فهو يكتب عن البشر والبشرية، وفي الوقت ذاته يركز التركيز كله على الحياة الفردية للناس، فهو قادر دائما على أن يمد خط سيرهم واتجاهاتهم حتى يبلغ به العلاقات الإنسانية والاجتماعية الكبرى التي تربطنا جميعا برباط واحد. إن الجماهير تتطلب من الكتاب الغوص في أعماق قلوبهم وتلافيف عقولهم حتى يتبينوا الاتجاهات الصحيحة والمواقف الصادقة. ولذلك لا يفتأ الإنسان أن يطرح دوما هذا السؤال: هل ينبغي على الكتاب أن يذهبوا في طريقهم كما يريدون؟ أم ينبغي عليهم أن يضعوا نصب أعينهم واجبهم تجاه المجتمع ويجعلوا أعمالهم مفيدة له..؟ إن الكتابة فن من أعظم الفنون.. قد وهبها الله للإنسان مع مطلع البشرية... ففيمَ هذا العطاء وكيف يمكن استخدامه؟ وهنا يحضرني قول للكاتب الروسي "سولجنتسين" الذي انشق على معسكر بلاده وقبع في بلاد الغرب، يقول: "إننا إذ نمسك هبة الفن – في الكتابة – بين أيدينا يكون شأننا – في ذلك مثل شأن ذلك المتوحش الذي يعثر على شيء جميل لامع فيقف حائرا به يقلبه بين يديه عله يجد له منفعة ما". وليس كل كاتب بحريص على الإجابة عندما يسأل لماذا يكتب، بل منهم من يتجهم وجهه أو يبتعد عن سائله كلية أو يبعد به عن هذا الموضوع على الأقل. ولكن، على كل الأحوال توجد خاصية شبه مشتركة بين الكتاب عندما يعرض عليهم هذا السؤال.. وهي خاصية البحث عن الحقيقة فقد أجاب جوته ذات يوم فقال: "إنني لم أتساءل قط خلال ممارسة مهنتي ككاتب عما يريده القراء أو عما يمكن أن يفيد المجتمع... إنني على العكس كنت أعمل دوما على تحسين نفسي وتعقيل فكري وتعزيز شخصيتي، وكنت فضلا عن ذلك لا أعبر عما كنت أعتقده بأنه الحقيقة". ولكن هناك كتابا آخرين قالوا بشكل مباشر إنهم يكتبون الحقيقة لغيرهم، ليوجهوهم إليها ويعبدوا لهم الطريق للسير عليها ويجنبوهم بذلك مرارة التجار، فيقول الشاعر محمود درويش: "يظل الأدب طموحا إلى تجسيد المشترك من قضايا الإنسان وذلك بهدف إقامة الصلة الإنسانية، فعندما نكتب سنوسع بالتأكيد مساحة وطن الإنسان، وأليس هذا ما يفعله الأدب في آخر الأمر..؟ فإننا نحن الكتاب وأصحاب القول نبحث عن فاعلية.. نبحث عن تجسيد الحقيقة". فعندما يكتب الكاتب إذن.. لابد له أن يحس إحساسا عميقا بأن هناك جمهورا يكتب له. فالمشاركة بين الكاتب وجمهوره هي الشرط الأساسي لتحقيق هذا اللقاء بين الاثنين.. فإن الأدب هو الفن الكتابي الإبداعي، الذي يعبر بالكلمة عن مشاعر النفس الإنسانية وأحاسيسها، وآلامها وآمالها.. ويعبر بالكلمة عما تحتويه هذه النفس من نوازع الخير ونوازع الشر، وما تزخر به من حلو الأمور ومرها.. يعبر بالكلمة عن صورة الحياة الإنسانية ويضع لها المضمون ويرسم لها الشكل الذي تحتاجه البشرية حتى تستمر على خطوات الطريق.. والإنسان يرى في الأدب إما صورة يحبها ويتمناها وإما صورة يكرهها وينفر منها.. أي أن الأدب يصل القارئ بالحياة في أعماقه ومن حوله، وليست الحياة الظاهرة التي تلمسها يده ولكنها الحياة التي يتشوق إلى أن يعرفها ولابد من أن يعرفه بها إنسان آخر يملك القدرة على ذلك... بأي صورة كانت... وإذا أنكر بعض الكتاب هذه الرابطة، فقالوا إنهم يكتبون لأنفسهم ولإسعاد ذواتهم أو إعلاء شأنهم.. فإنهم يجاوزون الحقيقة.. إذ ما الذي يدفع الكاتب إلى أن يعطي ما كتب للطباعة غير رغبته في أن يقرأ فرد ما، ما كتب...؟ وإلا فمن الأجدر به عندما يريد أن يكتب لنفسه كما يقول أن يضع أوراقه في أدراجه.. أو يجعل أفكاره في طي نفسه ولا يطلع عليها أحدا. وهذا شيء تلقائي... فالإنسان دوما في حاجة إلى أشياء تشبع في نفسه جوانب مختلفة من الحب والعظمة والخير، ولا يمكن له وحده أن يشبع هذه الجوانب – روحية كانت أو مادية – والكاتب يشبع فراغا في نفسه بما يكتب ويعبر عن أشياء وأشياء بوسيلة يملكها هو دون غيره من الناس ثم يدفع بكتاباته إلى من يقرأونها، فيشبع بدوره فراغات واحتياجات في نفسه هو الآخر. ولقد عبر عن ذلك أحد الكتاب فقال: "إنني لا أكتب لأعيش، ولا أعيش لأكتب، بل إنني أكتب لأكون حاضرا، وأن هذا الإلحاح إلى الحضور توق حيوي للتجانس مع الحضور الإنساني الشامل ومع الحياة ذاتها... فعندما أكتب أريد أن أوجد شيئا ما، لا يمكن أن يوجد بدوني، وهذا أمر يدخل السرور في القلب واللذة في النفس. فلنتفق أيها الزملاء الكتاب في كل أرجاء العالم على أن كتابة الكتاب أو الإنتاج الفني هما من دواعي السعادة والفرح. إلا أنه يجب ألا يعتبر هذا الفرح فرحا سطحيا خفيفا". إذن فالآصرة موجودة بين المعطي والمتلقي مهما أراد المعطي أن يتنصل منها.. فهي حقيقة موجودة كشيء ثابت... وهذا ما يعبر عنه استمرار وجود الكلمة المكتوبة منذ قديم الزمن وقد لا يدركها كاتب لوهلة، أو قد لا يرتبط بها، أو قد يتنصل من الاعتراف بوجودها... لكنها قائمة فهو في أعماق نفسه يكتب للآخر، فقد امتلك بالكتابة وسيلة يستطيع أن يخاطب بها غيره ويدله على ما يفكر فيه ويوجهه إلى ما يريد من اتجاه والمجتمعات تهتدي بشكل أو بآخر بما يكتب الكتاب وذلك عن طريق عمق الصلة بين الطرفين. *..-*..-*..-* والله الموفق 2016-08-03 محمد الشودري