الهجرة السرية نصفها بالدارجة المغربية "الحريڭ"، بالكاف المعجمة أو كما ينطقها أهل البوادي، أصلها "الحريق" من "أحرق الضوء الأحمر" لإشارة المرور بالعامية أي مر خلسة وهو مشتعل ومنه مرور المهاجرين بقوارب الموت خلسة عن أعين شرطة الحدود... كنا نظن أن ثقافة الحريك وحلم الشاب العاطل في قطع البحر الأبيض المتوسط نحو ""الدورادو".. جنة العمل والحياة الأوروبية، انتهت مع نهاية عهد الحسن الثاني (ملك المغرب السابق رحمه الله)، وانتهت بانتهاء سياسة الإنغلاق التي أحكم عبرها قبضته للبلد وحجر على الشعب داخل "كوكوط" (طنجرة ضغط) لعقود، مخافة دخول تيارات محررة أو مؤثرة على عقل الرعية، من تيارات يسارية وأخرى اسلامية أنتجت له خطين معارضين أحدهما يطالب بالجمهورية الاشتراكية والآخر بالخلافة الإسلامية طالتا مع فترة ملكه إلى نهايتها، مع ما وقع خلال ملكه من انقلابات أفقدته الثقة في الكل... سد الحسن الثاني كل منافذ الفكر ليخضع الشعب لإعلامه. كما أنه ورغم مديونية البلد رفض سياسة الخوصصة الشاملة، فترك بعض الشركات مؤممة وأخرى اشتراها وتركها تحت يده مخافة دخول المستثمر الأجنبي وتمكُّنِه.. كله حفاظا على العرش، فسدّ بهذا منافذ الاستثمار أيضا وتأزم الوضع بسبب تكاثر خريجي الجامعات ونقص فرص الشغل، وأصبح الشباب ينتظر الوظيفة العمومية بين شح البر و"نداهة" البحر.. وتفاقم الأمر في تسعينات القرن الماضي التي عرفت فكر الحريك في أوجه إذ لم تظل عائلة مغربية واحدة لم يرحل منها ابن أو ابنة، سواء عبر الطرق القانونية بأوراق الدراسة أو العمل، أو عبر الهجرة السرية... وأصبحت أخبار وفاة مهاجرين في مياهالبحر الأبيض المتوسطي، وأخبار اعتقال محترفي "بزنيس"(تجارة) الحريك المتحايلين على الشباب لنهب أموالهم مقابل وعود الفيزا(التأشيرة) أو وعود الوصول إلى الضفة الأخرى.. تفتح وتختم بها النشرات الإخبارية المغربية. كنا نظن أن ثقافة الحريك انتهت بقدوم الملك محمد السادس المستثمر، والذي فتح الباب على مصراعيه للخوصصة وللشركات المتعددة الجنسية، ومن بين تلك الشركات مراكز الاتصال التي وظفت من الشباب مئات الآلاف وخففت الضغط على الحكومة من مطالب الإلحاق بالوظيفة العمومية واستطاعت رواتب تلك المراكز فتح بيوت عائلية.. إلى أن صعقنا بأخبار انتحال شباب مغاربة لصفة لاجئين سوريين مستغلين الأزمة السورية ليتمكنوا من الوصول إلى ألمانيا، لنفهم أن الوضع الذي دفع بشباب إلى عرض البحر لربما استفحل ليدفع بآخرين نحو الحدود السورية كلاجئين هربا من المغرب! وأن ما استطاعت الرأسمالية الأمريكية (النيوليبرالية) إخفاءه عاد ليطفو ويعري على واقع تلك الشركات ومراكز الاتصال التي تستطيع أن تغلق أبوابها بين عشية وضحاها وتترك وراءها أرباب أسر عاطلين عن العمل، أو تستمر في استغلالهم بأوقات عمل مضنية ورواتب متوسطة، في جو من انعدام الأمن النفسي لدى العاملين بها وهم يشتغلون تحت رؤساء أجانب لا يعرفون مستقرهم ومستودعهم وأين يمكن أن ينتهي بهم الأمر في الشارع باحثين عن وظيفة جديدة أم في منصب أقل براتب أضعف.. غرباء في أوطانهم. عرت تلك الحوادث عن كون العمل في القطاع الخاص في المغرب غير مضمون وغير قار بسبب دخول الشركات دون شروط ولا ضرائب، وأن المواطن الذي تم الزج به في السوق الحر لن يشعر بأي مواطنة ولا استقرار ما لم يواكب عمله حكومة تضمن حق اليد العاملة وتحميها من الاستعباد والتشرد. المهاجر هو باحث عن الاستقرار، استقرار مادي بالعدل في توزيع الثروة والعدل في توظيف اليد العاملة والعدل في ضمان حق المواطن العامل عند الخواص، والعدل في المعيشة بين الطبقات الاجتماعية سكنهم وصحتهم وتعليمهم، والاستقرار المعنوي في الكرامة. ومادام هناك مغاربة اليوم يفدون على الدول الأوروبية ولا تزال صفوف المواطنين من السادسة صباحا تملأ شوارع القنصليات طلبا للفيزا، فلا يمكن إلا اتخاذه كمعيار ومقياس على اللاعدل في البلد.