قالَ عمر المتيوي، قائد مجموعة "روافد موسيقية" بطنجة، إنّ تسمية "الموسيقى الأندلسية" تسمية مغلوطة، جاء بها المستشرقون، وأنّ التسمية الصحيحة هي موسيقى الآلة، مضيفا أنّ المستشرقين يرمون إلى أنّ الموسيقى الأندلسية لم توجَد في المغرب إلا مع مجيء الموريسكيين في القرن 17. وفي هذا الحوار يتحدث المتيوي عن حالِ موسيقى الآلة في المغرب، وعن الاكراهات التي تواجهها، ونظرته إلى مستقبلها، في ظلّ طُغيان أنماطٍ موسيقية أخرى تستهوي الشباب، في الوقت الذي ينْحسرُ الاهتمام بالموسيقى التقليدية، وهوَ ما يرى المتحدّث أنّه يستدعي تضافر جهود الجميع لإعادة الوهج إلى تقاليدنا الموسيقية. بدايةً ما هي الموسيقى الأندلسية؟ الموسيقى الأندلسية تسمية مغلوطة جاءَ بها المستشرقون في بداية القرن الماضي، والصحيح هو موسيقى الآلة، أو الصنعة الجزائرية، أو المألوف القسنطيني أو التونسي، هذه هي الكلمات الحقيقية التي تعبر عنْ هذه الموسيقى التي ترجع أصولها إلى الحضار الأندلسية-المغربية. وقد حذرنا إلى هذا وزير الثقافة الأسبق والعالم الجليل والفنان الرقيق، المرحوم سيدي محمد الفاسي في بداية الستينيات. في المغرب وحتى في الجزائر، نتحدث عن موسيقى الآلة، لكونها تستعمل الآلات الموسيقية، وتمييزا لها عن السماع المنتشر في الزوايا الصوفية، والذي يعتمد بالدرجة الأولى على الصوت البشري. وهذا التراث خُلقت من أجله أنماطا شغرية جديدة في الأندلس، مثل الموشح والزجل، وانتقلت إلى العَدوتين، حيثُ كانَ التواصل ممتدّا على مرّ العصور، في عهد المرابطين والموحدين... هذه الحضارة خلقتْ ونشأت حسب البيئة الجديدة الأندلسية- المغربية التي اعتنقت الإسلام وتكلمت بلغة الضاض دون أي رفض وبتناغم تام مع الأصول العربية المشرقية للحضارة الإسلامية، غيْرَ أنّ بعض المستشرقين أرادوا أن يبينوا أن هذه الموسيقى لم تنتقل إلى المغرب إلا بعد مجيء الموريسكيين في القرن السابع عشر، وهذا لا يستند على أي أسس علمية ولا دلائل نصية ومادية. الموسيقى العربية، مثلا، انتقلت بقوة على عهد زرياب من المشرق إلى المغرب الإسلامي، ومرّتْ من بغداد العاصمة الإسلامية إذَّاك في عهد الخليفة العبّاسي هارون الرشيد، القرن الثامن ميلادي، وانتقلَت إلى القيروان على غهد الأغالبة ثم الدولة الأموية في قرطبة، مع عبد الرحمان الثاني، الذي استقبل زرياب، وأعطاهُ مكانةً. ومن المستشرقين من أراد التشكيك في أسطورة زرياب بحجة أن المرجع الكبير، وهو "نفح الطيب" يرجع إلى القرن السابع عشر أي بعيدا عن عهد زرياب، القرن التسع ميلادي. لكن بعد نشر الجزء الثاني للمقتبس لابن حيان في القرن الحادي عشر، من طرف الأكاديمية الملكية الاسبانية أصبح عندنا دليلا ماديا قاطعا يدلنا على عبقرية زرياب وإسهاماته العديدة في مجال الموسيقى والطبخ واللباس والفنون بصفة عامة. كيف هو وضعُ موسيقى الآلة اليوم في المغرب؟ قبْل حواليْ ستة أشهر كانت هناك مناظرة حول التنشيط الثقافي بتنسيق من طرف وزارة الثقافة، مع فاعلين في مجال الثقافة من الأندلس والمغرب، وقلتُ خلال الاجتماع لمدير الفنون بالوزارة، ما دام أن الاسبان استطاعوا أن يوثقوا فنّ الفلامينكو، وسجّلوه ضمن التراث العالمي لليونسكو، فلماذا لم نستطع نحنُ أن نجعل تراثنا الذي هو أجدر وأعمق وأكبر، بجميع المقاييس، تراثا عالميا؟ يجبُ أن تتظافرَ جهود الجميع من فاعلين، وجمعيات، ومجتمع مدني بمعيّة وزارة الثقافة للنهوض بهذا الموروث الفنّي العريق. ربما هناك كثرة، ولكنَّ الجودة لم تعدْ كما كان عليه الأمر مع شيوخ وعمالقة وأرباب العمل بهذا الفن التليد، وهذا راجع في جزء منه إلى ضعف قدرة الشباب على الحفظ، بسبب سرعة الزمن، وهذا يقتضي منها إعادة التصالح مع تراثنا ومع ذواتنا. في نفس الوقت يجب عصرنة طرق تلقين هذا الموروث، والاستفادة من التكنلوجيات الحديثة، وتوظيفها بأساليب ذكية خدمة للتراث. على رأس هذا الهرم توجد وزارة الثقافة بمعاهيدها الموسيقية وأساليبها العقيمة التي ترجع إلى الستينيات من القرن الماضي، أو حتى إلى عهد اللاستعمار. وهنا نطرح سؤالا جوهريا. من في هذه الوزارة يهمه الأمر، ومن يتحسر على ما أقول؟ نادينا بتسوية وضع الأساتذة والشيوخ الذين يدرسون بالمؤسسات التعليمية التابعة للوزارة والذين أفنوا عمرهم خدمة للفن، وعلى رأسهم أحد رموز موسيقى الآلة وشيوخها الكبار، الهرم أحمد الزيتوني الطنجاوي، فهل من مجيب؟ في أول زيارة لي إلى قصر الحمراء بغرناطة رأيت كيف أن الاسبان يحافظون على تراثهم بدقة وتفان وعلم ودهاء، تجعلك تحس بعظمة دولة بنو الأحمر بجنوب الأندلس. مع كل الأسف لا يخامرني نفس الشعور وأنا أمام مآثر أمجادنا بالمغرب. قسط من هذا يرجع إلى كون ما تعلمناه في المدرسة غير كاف لتشكيل "وعْيٍ وطني عامّ"، لا يشْملُ فقط الجانبَ السياسي، والدفاع عن الوطن، بل التشبُّث بالحضارة والثقافة اللتان تشكلا العمود الفقري الذي تنبثق عنهما الهوية وتتفجر بهما المواهب. كيْف تروْنَ مستقبلَ موسيقى الآلة في المغرب؟ الشباب اليوم من الصعب إقناعه بالموسيقى الأندلسية- المغربية، التي تعتمد على آلاتٍ وترية، تحتاج إلى كثير من الدِّقَّة ووقت طويل وصبْر وعناء، وهنا ألفتُ إلى أنَّ وزارة التربية الوطنية ارتكبت خطأ فادحا لكونها تعتمد في أقسام تدريس الموسيقى في المدارس الإعدادية على آلة الأورغ الغربية، التي لا تنسجم مع مقامات وطبوع الموسيقى المغربية، وهذا لأنّنا نتبع منهجية مسوقة على طريقة الغرب، لأنّ برامجنا التعليمية مستوحاة من النظام التعليمي الفرنسي. ليست لنا جرأة كافية لإبكار منهجية تستمد جذورها من تاريخنا الشامخ مع علماء الموسيقى من طينة الكندي، والفارابي، وإخوان الصفا، وصفي الدين الأرموي، وزرياب، والموصلي وابن باجة، وابن الحاسب المرسي، وابن الحمارة الغرناطي، وأمية ابن ابي الصلت، ومحمد البوعصامي، وسيدي محمد الحراق، ومولاي العربي الدلائي... دخول الآلات الغربية كان خاطئا، وأفرز ما نسمعه اليوم من موسيقى هجينة، اليوم صرْنا نرى آلة القيثارة أكثر مما نرى العود، ونرى آلات غربية أخرى أكثر مما نرى الآلات الموسيقية العربية التراثية، وهذه مسخرة. وعكس ما هو يمكننا أن نتصور، فالأذن المغربية تربَّت على الموسيقى الشرقية أساسا، الراديو والسينما بدآ في العشرينيات، والتلفزة في الخمسينيات. كنّا نستورد موسيقانا من الشرق حتى تناسينا أنغامنا ومرجعيتنا، وتهنا في بحر الحب المادي مع الأمكلثوميات على حساب الحب الصوفي والتأمل في الكون عبر أصواته الأزلية. في ظل هذا الوضع "القاتم" ماهي سبل النهوض بموسيقى الآلة؟ النهوض بموسيقى الآلة في المغرب يستوجب وعيا قوميا بمكانة التراث والثقافة عموما؛ يقتضي أيضا التصالح مع ثقافتنا وإنهاء الاستعمار الفكري الذي رسخ في ذهننا صورة مشوهة عن تقاليدنا وعن أسس حضارتنا. لست أدعو هنا إلى الرجعية والتشبث الأعمى بالماضي، بل قراءة مستنيرة ومفيدة لاستنباط أجمل ما جاءت به صفحات تاريخنا المشرق. مثالا على هذا إعادة العمل وتصنيع "العود الرَّمَل" الذي ضاع استعماله في ثلاثينيات القرن الماضي على حساب العود المشرقي. وقامت جمعيتنا "روافد موسيقية" بهذا العمل بتموين من طرف "الوكالة الإسبانية للتعاون الدولي والتنمية" التابعة للسفارة الإسبانية بالرباط، وبالاستناد على الإسباني "كارلوس بانياكوا" صانع الآلات القديمة. اليوم هناك نموّ ديمغرافي متنامٍ، وفي المقابل صار المهتمون بهذا الموروث الفني قلّة قليلة، والمدن التي ينتشر بها عل قلتها لم تعد محافظة كما كانت. وأستغرب لكون أن الوزارتين الوصيتين والمعنيتين بترسيخ مقومات الحضارة المغربية بكل تفرعاتها، وأقصد وزارة الثقافة ووزارة الإتصال، تركت كل هذا يسير لحاله. فسخت جميع الأجواق الوطنية والجهوية. بث فقرات الموسيقى التقليدية الجادة أصبح نادرا في المذياع وشبه مفقود على القنوات التلفزية. حتى وزارة السياحة قليلا ما تبعث بأجواق تحمل مشعل هويتنا إلى الخارج. أيضا أجد نفسي في حيرة لما يتجاوب الغربيون بدقة وتمعن وتقدير وتبجيل عند سماع مستعملات الآلة أو السماع. الأحزاب السياسية لا تهتمّ بهذا الموضوع، والمنظومة التعليمية تتخبّط في مشاكل لا حد لها، وهذا ما يجعل المسائلة التقليدية تندثر، وتحلّ محلها أخرى قادمة من الشرق أو من الغرب، وهذا ما سيقلّل من حضور هذا التراث، نحن ننادي اليوم بانفتاح الدول المغاربية على بعضها، وعدم البقاء في كنف الشرق أو الغرب الذي أصبح بدوره ينادينا ويلح علينا للرجوع إلى قيمنا الحضارية و الفنية.