إن علم الاجتماع هو ذلك الإمبريالي الذي يحاول ما أمكن اكتساح كل شيء ، إنه ذلك العدو المستبد الذي يفسد على الناس حياتهم العادية ، إنه بهذا المعنى الوحيد الذي بإمكانه أن يتدخل في كل شيء و أن يتساءل عن كل ما يمس حياة الإنسان . ذلك أن السوسيولوجيا تحاول قدر الإمكان أن تعالج جل المواضيع مهما استعصت على باقي العلوم ، وهذه خاصية من خصائص التمايز الطبيعي بينها. من هنا فإن السوسيولوجي يحاول ما أمكن أن يكون حكيما ، و أن يتحلى بأكبر قدر من الموضوعية و أن يمتلك تقنيات التوغل في الظاهرة محل البحث و الدراسة ، إنه كالفيلسوف في طبعه لا يدعي امتلاك الحقيقة ، لكن ما يمكن أن يكون صحيحا هو تفسير محددات الظاهرة و تفكيكها كما يجزئ المدمن قارورة التعاطي للمخدر . ومن بين هذه الموضوعات التي يعالجها علمنا موضوع المرأة التي أضحت في العالم المعاصر محطة تبدل و تغير لا على مستوى الدور و الوظيفة و لا على مستوى الحقوق، فالعالم المعاصر بتشكيلاته و تعقيداته زاد من عملية التغير الاجتماعي مما أدى إلى وجود كثرة التمايزات في العالم ، إلا أن هذا التميز يتجلى بالخصوص في ذلك النسق الثقافي الذي يختلف من بلد إلى أخر . إلا أن مثل هذه المواضيع ظلت على مر العصور من المسكوت عنها عالميا ، ناهيك عن ذلك المحلي حيث موضوع المرأة المغربية ظل مذلولا و مظلوما ، حتى إن الدراسات في هكذا مواضيع قليلة ، اللهم في تلك التي تعد على رؤوس الأصابع . لذلك فهمنا الوحيد من هذا المقال هو أن ننظر إلى المرأة المغربية من حيث دورها ووظيفتها داخل المجال المعاش سواء في العالم القروي أو الحضري و تبيان الاختلاف على مستوى تلك الأدوار ، بل إننا نتعدى هذا التصور لمعرفة المسببات الأساسية التي فرضت على المرأة هذه الوظائف داخل العالمين . إن طبيعة هذا الموضوع تجعلنا أمام تمايز مهم جدا ، يتجلى على وجه ما من الوجوه في سيكولوجية المرأة المغربية ، تلك السيكولوجيا التي تختلف من العالم الطبيعي إلى أخر صناعي مديني ، لكن نحن هنا لا تهمنا هذه السيكولوجيا بقدر ما يهمنا الإجتماعي . فإذا أمكننا الرؤيا بشكل عام فإن المرأة القروية تمتاز بالصلابة من جهة، و العمل من جهة ثانية، ذلكم أنها تعيش تعددا في الأدوار و الوظائف. فإلى جانب الحفاظ على التناسل الطبيعي و إلى دورها الأساسي في التربية و تنمية الجيل الناشئ، فهي تمتاز بالعمل الذي يعتبر من أساسيات حياتها، ذلك أن طبيعة المجال و البيئة فرضت عليها هذا الخيار الذي لا مفر منه في نهاية المطاف. إن قراءة متأنية في هذه المقارنة تجعلنا نقول بأن المرأة القروية مقيدة ، " لقد ولدت لتربي و تعمل " ، على خلاف المرأة في الوسط المديني التي تمتاز بالخيار في الدور و الوظيفة ، إننا هنا نتحدث عن المجال القروي ، ذلك المكان الأصل الذي سوف يلد عبر الزمن التاريخي مدن حضرية انتقلت من الطبيعة إلى التكنولوجيا ومن قلة السكان إلى كثرتها و من تم ظهر اختلاف هام جدا . فإذا كانت طبيعة الأدوار و الوظائف تمتاز بالتباين و الاختلاف، فإن ذلك راجع إلى طبيعة المجال دون شك. لكن دعونا نتساءل في هذا الموقع عن أصل هذا الاختلاف، لنقول ما أصله ؟ و هل بالفعل هو الذي أدى إلى تباين الوظائف و الأدوار، و بالتالي فرضها ؟ إن معالجة هكذا أسئلة من الناحية السوسيولوجية يجعلنا أمام عدة متغيرات و أمام عدة تصورات جاهزة ، لكننا لا نهدف إلى إعطاء شيء جاهز ، بل هدفنا الغوص في الظاهرة و استخلاص مسبباتها . و لأجل هذا المبتغى نضع متغيرات أساسية تبدوا لنا بشكل من الأشكال موضوعية لمعاجة السؤال ، هذه العوامل تضعنا أمام تصور عام لهكذا اختلاف حيث تحدد لنا طبيعته ، رغما عن المعيقات التي قد نلقاها في تتبع هذا الاختلاف . إن المتغير الأول الذي يبدوا لنا مهما لمعاجة السؤال يتبدى في التنشئة الاجتماعية ، ولعلنا لا نجانب الصواب إن وفقنا بينها و بين التربية ، حيث أننا في مثل هذه المواضيع نتفق مع الرأي القائل بأن " التنشئة الاجتماعية هي في حد ذاتها نمط للتربية " ، إنها العملية الكلية التي يوجه بواسطتها الفرد إلى تنمية سلوكه الفعلي في مدى أكثر تحديدا ، إنها في شأن أخر عملية اكتساب الفرد لثقافة مجتمعه و لغته و المعاني و الرموز و القيم التي تحكم سلوكه و توقعات سلوك الغير و التنبؤ باستجابات الآخرين و إيجابية التفاعل معهم ، كما أنها تشكل الفرد عن طريق ثقافته حتى يتمكن من الحياة في هذه الثقافة ، ومن هنا فإنها عملية تعليم تعتمد على التلقين و لتوحد مع الأنماط العقلية و العاطفية و الأخلاقية عند الطفل و الراشد وبالتالي عملية دمج عناصر الثقافة في نسق الشخصية . إذن من الواضح جدا أن لكل مجتمع ثقافته ، مما يعني أن المرأة في المجال القروي تتلقى ثقافة مختلفة على نظيرتها في الوسط الحضري ، وهنا نسجل إمكانية حصول الاختلاف ، ويتجلى بشكل واضح في تعلم الأدوار الاجتماعية المتوقعة و الموضوعة للمرأة حسب الشروط الموجودة في المجتمع من عادات و تقاليد و قيم و ثقافة ...الخ ، وعليه فإن التربية المدينية شكل من أشكال هذا الاختلاف ، لنقل بأن المرأة المدينية " ولدت لتختار و تنعم بقسط من الحرية " . إن المرأة في القرية، بالإضافة إلى الدور التربوي، تجدها متعددة الأنشطة، فهي تعمل إلى جانب زوجها في الحقل و في الزراعة، كما تساعد في دخل الأسرة و جلب الماء من العيون وتوفير متطلبات الحياة الضرورية. ذلك أن المرأة في هذه المجتمعات تقترن بالرجل من حيث الدور و الوظيفة، إنها امرأة كل شيء إذ تتميز بتعدد اللأنشطة، إن هذه الأدوار هي بالذات وليدة التنشئة القروية التي تحتم على المرأة القيام بهذا التعدد ، هذا التعدد الذي يتبدى في الظاهر عنفا . فالمدينة على خلاف القرية تتميز بالتخصص و تقسيم العمل ، ذلك أن المرأة تحتاج ما أمكن إلى دور وحيد ، كما أننا قد لا نلامس الصواب إن قلنا بأن المرأة الحضرية لا تعمل ، و إن كانت تعمل فهي تمتاز بتوحد الدور و الوظيفة إنها بلغة من اللغات رهينة الاختيار، ذلك ما يجعلها بنت مجالها، أي أنها تخضع لتنشئة اجتماعية تمتاز بالليونة . لذلك بإمكاننا القول بأن التنشئة الاجتماعية تجعل من الإنسان شيئا أخر ، إنها تبرمجه بهكذا مفهوم حسب الظروف ، لذلك فالقروي حتما سيكون قروي لا في البنية و لا في التفكير ، و المديني حتما سيتطبع على السلوك المديني . و بالإضافة إلى هذا المتغير ( التنشئة الاجتماعية ) ، نضع العوامل البيئية و طبيعتها كمتغير ثاني ، على إعتبار أن البيئة هي التي تحول الإنسان من إمكانية إلى واقع و تحول إستعداداته إلى قدرات فعلية مؤثرة ، فهي تؤثر في جسم الإنسان و عقله ، كما أن بعض الدراسات تشير إلى إمكانية تأثير البيئة في التكوينات الجسمية ، و عليه يمكن إعتبارها النتائج الكلية لجميع المؤثرات الخارجية التي تؤثر على الفرد من بداية الحمل إلى الوفاة . ولعل القرية تتميز بصعوبة بيئتها و صلابة طبيعتها نظرا لعدم تواجد أساسيات الحياة فيها ، عكس المدينة حيث متطلبات الحياة موجودة بكل مقوماتها ، من هذا المنطلق فإن الصعوبة في العيش تعكس مستوى الإختلاف القائم لا في السيكولوجيا و لا في الإجتماعي المعيشي وعليه فالإختلاف في الأدوار لابد منه بوجه من الوجوه ، إنه الطبيعة " خلقنا لنؤدي الدور " . إذن بالإمكان القول أن هذين المتغيرين ( التنشئة الاجتماعية ، العوامل البيئية ) أساسيان في مقاربة الاختلاف القائم بين دور المرأة في المجال الريفي ووظيفتها في الوسط المديني لا من حيث البنية الجسمانية و لا على مستوى الطبيعة الفكرية أيضا . فإذا كانت التنشئة الاجتماعية مختلفة و الظروف الطبيعية غير متساوية، فإن الاختلاف في الأدوار و الوظائف بالنسبة للمرأة المغربية ضرورة حتمية ، إننا كباحثين في الشأن الاجتماعي ينبغي علينا أن نساير التغير و أن نحلله في مختلف الأوساط لأجل خدمة التنمية و الارتقاء . علنا في الأخير نكون قد وضعنا القارئ أمام الوضعية المشكلة ، ونكون قد تمكنا من توجيه إهتمامه إلى مثل هذه المواضيع و الإنكباب إلى دراستها دراسة علمية ترقى إلى المستوى المطلوب و إلى متطلبات البحث العلمي . محمد قروق كركيش