°° أمية وأمية. °° القوة قائمة فوق الحق والسيف فوق الرأي. °° الذكاء يصدأ فلابد من صقله. °° رجل الفكر بين كتبه. °° الفكر ليس وقفا على الفلاسفة °° لا فكر إلا مع الحرية لشد ما يتألم الباحث حين يجرى أمام خياله صور أولئك الذين حرمهم الجهل الاستمتاع بأسمى نعمة في الوجود: نعمة الأبجدية. وعلى الرغم من الجهود المزعومة في بلادنا لمحو الأمية، فما يزال ملايين الأميين يسرحون، كالماشية في المرعى، وقد ضربت بينهم وبين نور العلم حجب كثيفة، لم تقو الحكومات، ولا الجمعيات الخاصة على إزالتها. وسيحمل كل عربي، سواء أكان حاكما أو محكوما، عار بقاء الأمية المنتشرة في بلاد العروبة من محيطها إلى الخليج، إلى أن تمحى من وجودنا محوا... على أن هناك أمّية من لون آخر، ليس خطرها أقل من خطر الأمية الأولى. وإذا كانت أمية الحرف سببا رئيسيا في بقاء الأمة في مستوى يمنعها من اللحاق بركب الأمم المتحضرة، فإن أمية المتعلمين هي التي تبارك الأمية الأولى وتشجعها وتؤاخيها، ولعل هذه التسمية أن تثير حنق فريق من أصحاب الإجازات العليا وامتعاضهم، فمادامت الدولة قد شهدت لهم في وثيقة ذات أختام وتواقيع، انهم "مجازون" فلا عليهم إذا هم أغلقوا الكتب إلى الأبد، وأقاموا بينهم وبين التفكير ستارا صفيقا، وانصرفوا إلى أعمالهم اليومية الرتيبة. وإلى أحاديثهم المكرورة التافهة، وإلى مقاهيهم المكتظة الصاخبة إنهم لا يقرؤون ولا يفكرون ولا يملأون فراغهم إلا بما هو أفرغ منه، لأنهم يتوهمون أنهم أحاطوا بالعلم من جميع أطرافه، وتقلبوا من المعرفة في مختلف أعطافها. ومن المؤسف أن يكون هؤلاء هم كثرة المتعلمين، وأن يكون الذين شدوا عن "قطيعهم" ضئيلي العدد، محدودي القدرة. ومن حق المرء أن يتساءل متى يتاح لمتعلمينا أن يفرقوا بين ما حفظوه في مدارسهم ومعاهدهم، وما اشتروا به علامات نجاحهم، وبين... الثقافة، التي ينبغي أن تكون هي هدفهم ومأربهم. وليست الثقافة مقتصرة على المعطيات التي نتلقاها رأسا من الكتاب ومن الأستاذ، فهذه المعطيات ليست سوى مفاتيح إذا ملكناها أمكننا أن ندخل بها إلى حرم الثقافة، هذا العالم الرّحب الذي نحس فيه أننا متشوقون إلى ملاحظة ما يحيط بنا، وإلى التفكير الدائب في الأحداث، والاندماج في الأشياء، والبحث المتصل عن فكرة جديدة نستكشفها، وعن إحساس طريف لم يكن لجوارحنا عهد بمثله. والثقافة الرصينة متطلعة طامحة قلقة، تنطلق من الشك الذي عرفه وغرف من ينابيعه "جِيد" André Gide، والذي أسس قواعده "ديكارت"، والذي انطلق منه، قبلهما بقرون علامتنا "الغزالي"، وتجعل منه، على حد تعبير أحد المفكرين "ملح الفكر"، هازئة بالمعرفة المجترة التي تظفر بالإعجاب الواسع في المجتمع المريض، معتمدة على المعرفة الشخصية العميقة، التي تقنع برضى فئة ضئيلة، لأنها هي التي تقودها إلى الفكر الخصب الجريء الحر. وإذا كانت دعوى "غاليلو" قد استكشفت أسلوبا آخر للحصول على المعرفة، هو أسلوب القمع والقهر، فإن هذا الأسلوب لم يمنع الأرض من أن تدور حول نفسها وحول الشمس، وظل عالم "إيطاليا"، على الرغم من ركوعه، وقد تجاوز السبعين، أمام محكمة تفتيش روما، وإنكاره مكرها، ما سموه كفره وزندقته، وعلى الرغم من مكابدته التعذيب الذي أفقده بصره، ظل رمزا للفكر المجاهد المنتصر، وطوى النسيان من عذبوه وظلموه.. ولقد يمكن، كما يقول الفيلسوف "ألن" Alen، أن يجهل المرء أن الأرض تدور، ويحيا مع ذلك، حياة جديرة بالإنسان، ولكن لن يكون إنسانا مطلقا من يؤمن، ومن يناصر من يعتقدون أن من الطبيعي أن تقام الأدلة على دوران الأرض بفصيلة الدرك والشرطة. وما أكثر، مع ذلك، من لا يزالون يجعلون القوة فوق الحق، والسيف فوق الرأي. وإذا كان قد غدا بعيدا عهد وزير المأمون، إسحق بن إبراهيم، الذي حاكم الإمام "ابن حنبل" على رأيه المناقض لرأي الخليفة في موضوع خلق القرآن، وعاقبه فإن عهد وزير "هتلر"، "غورينغ"، الذي كان يردد هذا القول: "كلما حدثني أحد عن الذكاء شهرت مسدسي" ليس ببعيد، وإذا تلفتنا اليوم، ذات اليمين، وذات الشمال، في مشرق الأرض ومغربها، وقع بصرنا على من يتنافسون في قص أجنحة الفكر، والمحاسبة الجائرة على الرأي، وتشريد المفكرين. ومن هنا نجد أن ولادة مفكر أمر عسير، غالي الثمن، إذ أن كل ما في الوجود يتضافر للحيلولة دون مصافحته النور: البيت، المدرسة، التقاليد، المجتمع، و... السلطة. وليس أيسر من أن يصنع المرء ما يصنع الناس، وأن يردد، كالببغاء، ما يقولون، ففي هذا إراحة ظاهرة للأعصاب، والتماس للسكينة، وهرب من الجهد الذي يسببه ما حاول "سقراط" نشره من تعاليم، بحواره، وهو يطوف في الأسواق، وبقصة حياته التي انتهت بكأس السم الظالمة، ليهيب بكل فرد أن يخلق فكرته الذاتية، ويكافح بها، ويموت، مثله، من أجلها.. على أن الثمن الذي يدفع حتى يولد مفكر، مهما يكن باهظا، لا يذهب سدى، ويظل هذا العقل المدرَّب المستنير، صاحب الملكة المميزة، والحس الناقد، والابتكار الخصب، هو الحصن المنيع الذي يقي المجموعات البشرية آثار نشوة العظمة الجماعية، وسطوة السلطة السياسية، ويظل أبدا هو أب هذه الحضارة الإنسانية، والشيء الذي يحقق به الإنسان معنى وجوده على سطح الكرة الأرضية.. ويتوهم مع ذلك، كثير من المتعلمين، أنهم دون أن يدفعوا أي ثمن مرهق، مفكرون. ومن بينهم فريق حسن النية، يحسب أن الفكرة الجيدة ضالته، وأنه يبحث عنها في كل مكان، ولكن حسن النية لا يكفي، والتفكير فن يتطلب، كسائر الفنون، شرائط لابد من توافرها حتى يستقيم مخلوقا كاملا.. وإذا كان لاريب في أن عمل الفكرة يتكئ على التركيز الذهني، فإن في انطلاقها دائما، كما يقول "برغسون" Henri Bergson، تأثرا خالصا صافيا.. وأن في جذر كل فكرة لهزة تعرو أدق أوتار الروح، كما انتفض العصفور بلله القطر، شعورا بالتجاوب بين النفس وبين ما حرك ملكاتها، وآثار إعجابها، وأيقظ دهشتها، وهذا يقتضي صاحب الفكر أن يحيا من وقت لآخر، لحظات يوهم نفسه في خلالها أنه إنما يهبط على الأرض من رحلة الآفاق، فينظر إلى الأشياء بعين بريئة معجبة، ويحاول بقوى حدسه وتخيله وحَزره، أن يفهم بأسلوب جديد يحرك فيه الاستغراب والقلق، ويصقل، في الوقت نفسه، ذكاءه. وغني عن التأكيد، بَعْدُ، أن صقل الذكاء باستمرار، لئلا يتحول إلى ناعورة تدور حول نفسها، أمر ضروري غاية الضرورة، بالقياس إلى رجل الفكر. ونظرة عجلى إلى الأستاذ الذي يقتات من مادته المحفوظة ترينا كيف أن معرفته تقف عن النمو، وأن نشاطه الذهني يخبو شيئا فشيئا حتى ليكاد ينطفئ، وأن ذكاءه يصدأ من طول مقامه في العمل الرتيب. وتعجبني كلمة ل "جول لوميتر" Jules Lemaitre يقول فيها: "خير تلميذ لي هو الذي ليس من رأيي". وأظن أنه يقصد من ذلك هدفين: أولهما تعويد الطالب استخدام الآلة التي يحملها فوق كتفيه، ولو أداه هذا إلى مخالفة رأي أستاذه، وثانيهما أن هذه المعارضة تدعو الأستاذ إلى اليقظة الدائمة، وإلى تجنب الاعتماد على ما حفظ وما كرر. فالتلميذ المستقل الرأي يبني شخصيته بيديه فيبقى هو إياه، ويذكر أستاذه، دون أن يريد، بواجبه في شحذ تفكيره شحذا متصلا، ليكون أهلا لما نذر له حياته. والتدريب الذهني في أي اتجاه يعدى بفائدته أكثر من مجال. وأن أية محاولة جدية، كما تقول "سيمون فيل"، لحل مسألة هندسية معقدة مثلا، ولو لم تؤد بعد جهد ساعة وبعض الساعة، إلى أي حل، تكون قد أدت، دون شعور صاحبها، إلى تقدم من دقيقة إلى دقيقة في اتجاه آخر أعمق، وأدق سرا. إن نورا جديدا في النفس قد شعَّ، في هدوء وعمق، سيبدو أثره، فيما بعد، في موطن من مواطن الذكاء قد يكون غريبا كل الغرابة عن الاتجاه الذي جهد فيه الفكر !!. هذا، والحوار مع عقل كبير، يبقى المصدر الأول والأعظم لتحريك الذهن. وما أحوج المثقف والمتعطش إلى الثقافة إلى أن يصطفى مؤلفا كبيرا يستحب مصادقته وعشرته ساعة كل يوم ويحسن في بادئ الأمر، أعني في مطلع كل لقاء جديد. وما أحلى هذه الهنيهات، يجلس فيها رجل الفكر إلى مكتبه، والفجر لما يبزغ بعد، وضياء مصباحه الأثير لديه، يرسل أشعته الهادئة الناعمة على الورقة البيضاء أمامه، وهو غارق في تأمل عميق، يفرح بالأفكار المزدحمة من حوله، كالعصافير فوق بيدر القمح، وهو يحاول اقتناص ما يعجبه منها، يختار اختيارا صعبا، لذيذا، ويزن، بميزانه الدقيق الحساس، كل خاطرة، وكل هاجس، لا يستسلم لأية حركة من الحركات الحادة، ولا يقبل ما يأتيه عن طريق حواسه، دون أن يقارنه بالأضداد، ويحلل عناصره ليتبين له السطحي من العميق، والخطأ من الصواب، والحق من الباطل، وليصدر بعدئذ حكمه وتقديره ورأيه.. ومن السذاجة الظن بأن التفكير وقف على الفلاسفة والمتفلسفين، وإذ كان هؤلاء وأولئك يعانون من تهكم القراء ما يعانون، فلعل طائفة منهم قد أسهمت في تبرير ذلك بما أحاطت به الفكر الفلسفي من غيبيات وطلاسم، كما أن لدى بعض قادة الأحزاب ومفكريها من الرموز والمصطلحات والتعابير ما يعطي أسوأ صورة عن الفكر، وما يخيف أوساط الناس منه.. وإذا كانت الثقافة الحية هي التي تلد الفكر، فالفكر هذا هو تعبير، وما بقيت الفكرة هواجس تختلج في الضمير، فإنها تظل صورا سابحة في السحاب، تبدو وتختفي كدخان اللفيفة، والكلام هو الذي يحدد معالمها، فإذا كان كلاما شفويا وضح الفكر بعض الوضوح، وأمكن نقله والاستفادة منه، بعض الشيء. على أنه لا يكمل ولا يتحدد كل التحديد إلا متى سكن الأحرف، وتجسد فيها، ففي هذا الإخراج المادي صوغ للفكرة ينسق عناصرها، ويحاول جعلها دقيقة أقصى الدقة الممكنة وقابلة للتداول أيضا.. ومن هذه الصلة الوثيقة بين اللغة والفكر تظهر ضرورة مقدرة المثقف على التعبير، فكلما قوى في هذا المجال اكتسب فكره دقة، وكان إمكان انتشاره أوسع، واحتمال بقائه أقوى. وإذا عجز المفكر عن التعبير نامت أفكاره في صدره، فأصبح طاقة مهدورة، وما أفظع مأساة ضياع القوى في بلاد هي في أمس الحاجة إلى أية طاقة وأية قوة.. والفكر الحي مع الحرية، فكما أنه لا ينمو ولا يمكن أن يبدع إلا في جو حر، وكما أن الفكرة إما أن تكون حرة أو لا تكون، فإن الفكر يدافع عن الحرية في جميع أشكالها. وإذا كافح من أجل حقوق الفلاح والعامل والفقير والمريض – وهو خائن لثقافته إن لم يكافح – فإنه لا يرضى أن يشتري هؤلاء خبزهم ودواءهم بثمن كرامتهم. إنه يريد إعطاءهم الخبز والحرية..، الفكر الحي لا يمكن أن يكون إلا مع الإنسان، كل الإنسان.. **/--/**/--/** والله الموفق 2014-12-10 محمد الشودري