يُمنع رجال الدين من ممارسة السياسة أو الحديث عنها". دعونا نأخذ هذا القرار ونفصله تفصيلا، ونفتته تفتيتا، ثم نعيد صياغته. رجال الدين، هو مصطلح أطلق على رتبة عالية من خدام الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، في عهد استحوذ فيه الباباوات على الحكم والثروات، وحاربوا العلماء، وسيطروا على مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية، باسم الدين وباسم الرب. وهو ما يسمى بعصر الظلمات الأوروبية، حتى ثار الناس على الكنيسة، لما انفضح أمر تحريفها للدين، ولم تعد ادعاءاتها مقنعة للعاقلين. لكن لشدة الاضطهاد، عوض أن يبحثوا عن الدين الحق، قرروا التخلص من الروحانيات وإنكار الوحي والكتب السماوية كاملة والرسل، والاكتفاء بمنهج العقل لفهم العالم مهما قصُر أو ضعف على الإحاطة به. ووجدوا في علوم المادة خلاصهم، فطوروها إلى أبعد حد، وهو ما تشهده أوروبا اليوم: أوروبا العلمانية التي فصلت الدين عن السياسة والاقتصاد والحياة والإنسانية. مصفاة الإسلام في الإسلام لا يوجد رجال دين ولا كهنوت، إنما علماء الدين، أو ما سُمي عند العامة ب"الفقهاء"، الذين تفقهوا في أحكام الشرع من الكتاب والسنة، ثم اجتهدوا فيما استجد من أمور الدنيا لمعرفة حكم الشرع فيها بالقياس والإجماع. أي أن الدين الإسلامي ترك أمر السياسة والاقتصاد والعلم والثقافة للعقل البشري، ليطور فيها كما يشاء، ثم يعود ما وصل إليه العقل إلى العالم بشرع الله، ليفصل فيها بمقياس الحلال والحرام، ويغربلها، ويصفيها، ويترك منها ما ينفع الناس، ويرمي بالفضلات. هكذا تداخل الإسلام مع العقل كمصفاة، لا كمانع ولا كحاجز ولا كمعرقل ولا كمسيطر ولا كمحارب لإنتاجاته وإبداعاته، وإنما كموجّه ومعالج ومنقّح. هؤلاء العلماء الذين تفقهوا في الدين، وغيرهم ممن توسط علمه أو قل بقليل من الصالحين حفظة كتاب الله، جاز لهم في أي مكان بين جمع من المسلمين إمامة الصلاة، في مسجد أو جامع أو مصلى. فهو عند إمامتها إمام، وعند إلقاء الخطبة على المنبر وعند تلقينه الدين للناس عالم، وحين يستفتيه الناس ويفتيهم فقيه، بغض النظر عن مهنته ووظيفته، سواء كان محاميا أو طبيبا أو مهندسا أو تاجرا أو نقابيا أو سياسيا أمينا عاما لحزب أو مناضلا من شبيبة حزب أو مستشارا ملكيا أو رئيس دولة أو عامل نظافة. يعني باختصار، لا وجود في الإسلام لوظيفة بعينها أو مهنة بعقد عمل وراتب ووزارة معنية مكلفة بتقنينها اسمها: وظيفة رجل دين أو فقيه أو إمام، إنما هي أدوار تطوعية يفعلها العالمون بغض النظر عن مهنهم وتوجهاتهم لوجه الله. وظيفة بأجر حين نقرأ كلمة "منع"، تتبعها كلمة "رجال الدين"، علما أننا نتحدث عن مسلمين، هذا يعني أن الإمامة والتفقه في الدين الإسلامي أصبح وظيفة بأجر، ومؤسسة تابعة في الخدمة. بل إنها تكوين، يختار لأجلها شباب معلوم ليتم تحفيظه القرآن في مدارس التعليم العتيق، حسب مذهب الدولة ونظامها. ويتخرجون من ذلك التكوين بالتربية اللازمة لمسايرة الدولة في أهوائها، يعني أن خطبهم تصبح محددة فيما يصلح لمن كوّنهم، فيتحدثون فيما أُمروا بالحديث عنهم، ويصمتون عما أمروا بالصمت عليه. يعني أن العلماء بالشريعة فقدوا دورهم التوجيهي وأصبحوا أدوات في يد السلطة. عملية جمع الشتات الآن دعونا نجمع الشتات: "منع رجال الدين من ممارسة السياسة"، في بلد أصبحت فيه الإمامة والخطابة وظيفة يتم تنصيب العاملين بها من طرف "وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية"، يعني أنه لم يعد ممكنا لأي مسلم حافظ لكتاب الله أن يؤم جماعة من المصلين، ولا أن يخطب فيهم أو يفتيهم، إن استفتوه، مخافة أن يكون محزبّا أو مسيسا أو نقابيا، فيؤثر فيهم للتصويت على حزب لا يريده النظام، أو يؤثر فيهم للانتماء إلى نقابة يكرهها النظام، أو يفتيهم بعكس ما يروم إليه النظام، فالنظام يحب أن يسيطر على كل شيء حتى عقول الناس. هذا الإعلام تحت قبضته، هذا التعليم تحت إمرته، تلك المساجد تحت سيطرته حتى لا يفلت عقل مؤمن من حسرته! بصيغ أخرى لتقريب المعنى: الدين محتكر من طرف المؤسسة الدينية، التي بدورها يحتكرها النظام، ويأخذ شرعيته منها. أي أن النظام احتكر الدين ومنعه عن باقي المسلمين. كسب الأصوات بالقرآن المغرب ليس دولة علمانية، إذ أن الملك مدبر أمور البلد السياسة هو أمير المؤمنين، ووزير الأوقاف السياسي هو نفسه الفقيه على شؤون المسلمين، والأغلبية الحكومية منبثقة من حزب ذي مرجعية إسلامية. يعني أنه يحق ممارسة السياسة على أساس الدين لكسب أصوات الناس وولائهم بآيات القرآن والأحاديث النبوية، ولكن لا يحق للإمام أن يكون ذا انتماء حزبي، ولا للفقيه أن تكون له بطاقة نقابية. يعني هو منع للدين من أن يوجه الدولة، لكن رخصة للدولة لأن تستعمل الدين في بعض شؤونها على حسب المزاج والمصلحة والأهداف لتمويه الحقيقة وإخفاء الخلل. يعني بالاختصار المفيد: استغلال للدين في أبهى الحلل!