والمعرفة غير السلوك. فالمعرفة معلومات يغذي بعضها بعضا. وهي مقدمات عقلية تؤدي إلى نتائج منطقية. أما السلوك فهو نزوع : قد يكبته العقل بعض الوقت أو يخفف منه، ولكن النزوع يظل مستكنا في اللاشعور يبحث عن فرصة للانطلاق. ومتى انطلق ترك للعقل أن يبرر تصرفه فيختلق له المسوغات لتصلح أسبابا. إن السلوك هو الشجاعة أو الجبن. هو الكرم أو البخل. هو الرزانة أو الحمق. ولكن المعرفة هي التي تكتب النجاح للعالم في معمله. وللفيلسوف في بحثه، ولعالم الفضاء في اطلاق مركبته. ومعظم القادة ينجحون بالسلوك أكثر مما ينجحون بالمعرفة، فنابليون وهتلر وموسوليني وستالين لم يكونوا أعلم أقوامهم وإنما كانت شجاعتهم هي التي جعلت منهم قادة. على أن كلا من المعرفة والسلوك لا غنى له عن الآخر. فالمعرفة لا تستغني عن السلوك، لأنه هو الذي يصوبها نحو ما تريد، وهو الذي يكيفها ليلائم بينها وبين أهدافها. وكذلك لا يستغني السلوك عن المعرفة. فالسلوك من غيرها طيش، بل هو انفعال حيواني يصدر عن غريزة دون أن يأخذ جرعة من العقل تؤصله وتحدد مساره. وإذا كانت المعرفة بطبيعتها موضوعية تقوم على قواعد ثابتة، فإن السلوك ذاتي يتقلب بتقلب الظروف والملابسات. إن المعرفة سكون والسلوك حركة. ولذلك لا تتغير المعرفة بتغير الأحداث، على حين تفرض الأحداث نفسها على السلوك. وهذا القول نفسه هو من قضايا المعرفة لأنه ينبثق من منطقها. وما دام كذلك فهو قابل للتأييد وللتنفيذ، وهذه القابلية تجعل المعرفة مرنة تحتكم إلى العقل ولا تستبد باتجاهها كالسلوك حين يصدر عن انفعال. إن المعطيات تصل إلى من يستقبلها عن طريق السمع أو البصر أو الشم أو الذوق أو اللمس أو عن طريق اثنين أو أكثر منها. وهي في حاجة إلى الفهم لكي تتفاعل مع التجربة فتتحول إلى معرفة. وقديما قال: "الجاحظ" في وصف إنسان غبي : إن المعرفة الحقة تقتضي التدقيق في استقبال المعطيات، وتستلزم فحصها وتقليبها ومقارنة بعضها ببعض: القديم منها والجديد، قبل ضمها إلى حصيلة المعارف التي هي رأس مال المفكر. والإنسان الذي لا يشبع من المعرفة تزداد معارفه بمضي الزمن فتزداد مقدرته على استيعاب كل جديد.لأن نسبة ذكائه المكتسب تتعاظم بتعاظم المعارف التي تكونه فيقل الوقت الضروري لقراءة كتاب أو حل مشكلة، وبذلك تتسع إحاطة الإنسان بالأشياء شيئا فشيئا في متوالية هندسية. وبما أن المعطيات تحتمل الصدق والكذب فإن على مستقبلها أن يستوثق من صدقها بالرجوع إلى مصدر آخر على الأقل لا علاقة له بالمصدر الذي تلقاها عنه. إن مرسل المعطيات يتأثر ببيئته ومزاجه ومصلحته دون أن يشعر، فهو في حديثه أو كتابته موضوعيا بحتا. وأقصى ما ننتظره منه أن يتمتع بمرتبة عالية من التجرد. ومن الناحية الأخرى قد لا أذهب بعيدا إذا قلت إن المعطيات لا تترك بالضرورة نفس المحتوى الذي أراده مرسلها ما دام مفهومها النهائي يتوقف على ثقافة من يستقبلها، فهي قد تتطور في معناها بمجرد أن تنتقل من شخص إلى شخص. لقد قال علماء الإدارة: إن المدير لا يستطيع أن يعتمد اعتمادا كليا على التقارير التي تصله من مرؤوسيه لأنها تتلون بلون كل منهم شاء أو لم يشأ، فعليه – لكي يسمع ويرى بنفسه – أن يتجول في منشأته وأن يحتك بالعاملين وبالجمهور ليعرف "الواقع". ولكننا نعود فنقول إن المدير يترجم ما يسمعه وما يراه في ضوء تجاربه الشخصية وهي غير محايدة، فحكمه لا يمكن أن يكون مضبوطا وهو يقيسه بمسطرة هذه التجارب. وبالمثل لا يستطيع المرء أن يثق في المنطق وحده، فالمنطق صناعة تحق الحق وتبطله، والعبرة في النهاية بمهارة المنطق. وكثيرا ما يستمع القاضي لوكيل النيابة فيقتنع بأن المتهم مجرم، ثم يستمع للمحامي عنه فيقتنع بأن المتهم بريء، وقد يحكم في النهاية عن انطباع يستريح له ضميره لا عن معرفة تتفق مع الحقيقة. والله الموفق 22/03/2014 محمد الشودري