« دى بتاعتنا » انطلقت منى تلقائيا وأنا أضرب بيدى على منضدة الكمبيوتر، فالتفت أفراد الأسرة نحوى بنظرات متسائلة، وقد تعودوا منى مثل هذه الانفعالات وأنا أقرأ أو أكتب، لكنهم أدركوا من استغراقى أننى لا أريد الحديث عما أثار انفعالى، فتركونى وشأنى، وقد كان شأنى أكبر مما يمكن اختصاره فى إفادة سريعة، فهو يرتبط بقناعة لا تزال تتجدد عندى، بأننا نسير فى الاتجاه الخاطئ إذا لم نول للالتفات شرقا اهتماماً أكثر، وأننا سنكون كمن يحرث فى البحر إذا ظل العلم ومُخرَجاته التقنية لدينا وليدة فانتازيا المُستغرِبين علميا، الذين لا يدركون أن كل أمورنا ينبغى أن تكون مرتبطة بأولويات احتياجاتنا ونطاق قدراتنا ومواردنا الذاتية، والأهم: إمكاناتنا فى استيعاب الآثار الجانبية والأخطار المحتملة فى أمور العلم والتقنية، ومنها على سبيل المثال القريب الصاخب موضوع المحطات الكهرونووية التى سأرجئ الحديث عنها إلى وقت لاحق، وسأظل أجهر فيها برأيى المُناهِض مهما استقوت بغطرسة بعض «المختصين» النوويين وعدوانيتهم فى الرد، ومهما استجابت السلطات لإلحاحهم الملىء بثقوب الأنانية وأحادية الرؤية، والقفز على حقائق يدعمها أغلبية البشر، وبعيدو النظر من أهل العلم، والمهتمون بالثقافة العلمية التى تشغلنى. «دى بتاعتنا» انطلقت مِنِّى تلقائيا وأنا أتابع موجة اهتمام جارف بمادة «النوسيفرين» nuciferine المستخلصة من زهور «اللوتس»، والممتدة بين مراكز أبحاث علمية عالمية متقدمة، وقد ثبت أنها أوفر ما تكون فى «زنابق الماء الزرقاء» التى هى «اللوتس المصرى الأزرق»، وبقدر ما أثارت المتابعة اندهاشى، بقدر ما أثارت تعجبى من الإرث الحضارى العميق، عمق آلاف السنين، الذى ننام عليه دون أن نستفيق بما يجدر بأناس كان قدماء المصريين أسلافهم، والذين حدسوا بسرِّ اللوتس الأزرق قبل أن يستكشف العلم الحديث هذا السر كما فى الهندوالصين، وأرجو ألا يسخر المُستغرِبون علميا من شأن هذين البلدين فى البحث العلمى، فهما يتقدمان على دروبه المتشابكة والمعقدة بثبات وجسارة، محققين إنجازات مهمة لصيقة بواقعهم اومنافِسة فى العالم. المعروف أن نسبة كبيرة من العقاقير المستخدمة فى الطب الحديث مُستخلَصة من مواد طبيعية على رأسها النباتات، والنوسيفرين المستخلَص من اللوتس هو مادة واعدة بعقاقير عديدة فعالة، فهو ينتمى لأشباه القلويات التى يقع تحت لافتتها الأتروبين والكافئين والكودايين والمورفين والنيكوتين على اختلاف تركيباتها وتأثيراتها، وهو أقرب تكوينا إلى مادة الأبومرفين، ومن ثم علينا أن نتوقع استعمالات طبية له مشابهة لتلك التى يكتنزها الأبومرفين، ومنها علاج إدمان الكحول وإدمان الأفيون ومشتقاته، وهناك تطويرات تجعله واعدا فى علاج مرض باركنسون (الشلل الرعاش) ومرض ألزهايمر، كما سبق تجريبه فى الحقل الذى ترتع فيه الفياجرا الآن! والآن تشتغل الصين على تنويعاته لتحفيز البنكرياس لعلاج مرض السكر. وقد أثارنى كل ذلك إلى درجة الخبط على منضدة الكمبيوتر والهتاف «دى بتاعتنا»، فعلاقة أسلافنا بأم النوسيفرين، أى زهرة اللوتس الأزرق، تنبئ عن حدْسٍ علميٍّ عظيم، بتأثيراته العضوية، والروحية، ولا أظنهما منفصلين ! أسلافنا العِظام فى هذا الوطن العظيم الجريح، والذين أراد جهول أن يطمس وجوه آثارهم، وجاهر آخر بِنيَّة فريقه هدم هذه الآثار إن تمكَّن وتحكَّم، هؤلاء الأسلاف كانوا يسحقون زهور اللوتس المجففة ويضيفون مسحوقها، بمقدار معلوم،إلى دقيق خبزهم، وكان عطر اللوتس من أثمن ما استخدموه من عطور، اعتبروه جالبا للسكينة ومسكنا لآلام البطن، فهو مزيل للآلام ومضاد للتقلصات ومهدئ نفسى بلغة الطب الحديث. كان هذا منذ آلاف عدة من السنين، وبموازاة ذلك كان اللوتس زهرة مقدسة، توضع مع أجساد المتوفين لتنبت من رمادهم تلك الزهور فى «حدائق اللوتس» المقدسة، وكان رمزا للجيش المصرى قوام أبكر دولة فى فجر الحضارة الإنسانية، كما كان فى وعى المصريين القدماء مرادفا بهيئته لهيئة الوادى الذى يسكنون، فساقه الممتدة هى نهر النيل، وتاجه هو الدلتا، وأوراقه البحيرات. يالها من لمحة ! يستحق اللوتس المصرى ذلك، وأكثر من ذلك، فلابد أن المصرى القديم راقب معجزة هذه الزهرة واعتبرها زهرة سماوية على الأرض، فهى تتفتح مع شروق الشمس فواحة بعطر مغرٍ ثمين ثم تنغلق بعد الظهر، حابسة فى جوفها العاطر حشرات تظل تنهل من رحيقها وتتمرغ فى حبوب لقاحها حتى الصباح التالى، فتنطلق مع انفتاح أبواب السجن المعطر حاملة ماعَلِق بها من دقائق التخصيب لتنشر سلالة الزهرة البهية. زهرة عمرها أربعة أيام، بعدها تتساقط أوراقها فاتنة الزُرقة، فيميل قلبها العارى على قمة الساق، وتجترح مأثرة مؤثرة إذ تُلقى بهذا القلب فى الماء، ليقع على وحول القاع ناثرا بذوره التى خبأها فى ثناياه، ومن هذه البذور تغوص فى الطين جذور، وتنبثق بادرات، تستوى وتصعد سيقانا تشق ظلمة الماء لتبلغ أول النور، هنا تطرح على وجه اللجة أوراقها الخضر قلوبا كبيرة مستديرة طافية، وفوقها تشرئب زهور الزُرقة الخلَّابة. برغم بزوغها من قيعان الوحل عرف المصريون القدماء أعجوبة تنظيف أوراق هذه الزهرة لنفسها، فاتخذوها رمزا للطهارة، وهو ما لم يكتشف سره العلم الحديث إلا عام 1977 عندما نظر العالِم الألمانى «فيلهلم بارتلوت» إلى سطح هذه الأوراق عبر الميكروسكوب الالكترونى، فأدهشه أن سطح أوراق اللوتس يتكون من طبقتين، إحداهما مخشوشنة بنتوءات «نانوية» فائقة الدقة، والثانية شمعية تكسو ذلك الاخشوشان، واكتشف ما سماه «تأثير اللوتس» الذى اعتبرته ألمانيا أحد أهم اكتشافات علمائها فى النصف الثانى من القرن العشرين، فهذا التكوين المدهش يضم حبات الندى والمطر إلى بعضها البعض فتكبر مُتكورة مُتدحرجة بين النتوءات النانوية ثم تنزلق على السطح الشمعى آخذة معها الوسَخ والغبار أولا بأول، فتظل نظيفة دائما. ومن هذا الاكتشاف توالى تصنيع مواد نانوية لا تتوسخ، ثياب، أحذية، دهانات حيطان، أدوات صناعية، وملاعق للعسل تستصفى نفسها بنفسها. أى معجزة ! معجزة توحى لى بأن مصر التى اكتشف أسلافها إعجازها، لابد ستخرج إلى طِيب الهواء والضياء برغم كل هذا الوحل المصطنع تحت أقدامها والسخائم المُلقاة عليها من الخارج، شرط أن نُصرَّ على سلوك اللوتس المصرى الجَسور، الطالع من قيعان الوحل وظلمة الأعماق، بهياً نقياً عفياً وفوَّاح الشذى.