الراهن العربي: دينامية الشارع، همجية الحاكم وقصور النخبة تُطلق صفة الثورة عادة، على حركة احتجاجية ذات طابع اجتماعي أو سياسي تقودها فئة متضررة، تعمل على تغيير الواقع ببديل أفضل. وهناك فرق بين الثورة والانقلاب، باعتبار أن الثورة تهدف إلى إحداث تغيير جوهري في النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بينما يهدف الانقلاب إلى تغيير الأشخاص فقط، بنزع السلطة من هذا الطرف وتسليمها لطرف آخر. ككل أبناء جيلي في الجزائر، تربيت في حضن خطاب سياسي وإعلامي ومدرسي، ظل يقدم الجزائر على أنها بلد أعظم ثورة ضد الاحتلال، ألهمت الشعوب المضطهدة. لم تكن عائلتي تشذ عن أغلبية الشعب الجزائري، فأخوالي وأعمامي لم يتأخروا عن نداء الجبهة، ووالدي فقد ابنه الوحيد آنذاك، فداء لحرية الوطن. وكلما كنت أكبر كانت دولتي المستقلة تصغر في عيني، وكنت أتساءل: كيف لشعب يقود ثورة عظيمة، يعجز عن بناء دولة يطيب فيها العيش؟؟ و هل الثورة العظيمة هي التي تحصد أكبر عدد من القتلى؛ أم هي التي تحرر الطاقات وتنجز ما يصون كرامة أبنائها؟ هل الثورة هي التي تنجب شعبا يكتفي بالافتخار بكمية قتلاه فيما واقعه يزداد بؤسا؟ مع بداية القرن العشرين، كانت الثورة العميقة تسير بخطى واثقة بقيادة حركة التحرر، وفي سياقات عالمية أفرزتها الحربان العالميتان، تغيرت الاستراتيجيات، ظهر على الساحة الجزائرية لاعبون جدد انقلبوا على الثورة الحقيقية، وزجوا بالشعب الجزائري في حرب طاحنة، كانت أقرب إلى المجزرة منها إلى الحرب، حيث تم القضاء على أكبر عدد من الشباب، وعلى أغلب الأطر السياسية والعسكرية والفكرية التي تفطنت للمؤامرة؛ وقد نجح المخطط في إنهاك الشعب، بعد أن أفرغه من طاقته الثورية ومن الكفاءات المتنورة؛ فلم تكن الثورة سوى انقلاب عصابة محترفة على المحتل. لم تكن أجندة السلطة التي انقلبت على المحتل الفرنسي واضحة لدى عامة الشعب، وقد غطى على شبهتها الخطاب الشعبوي والإنجازات الفرجوية التي استغلت جهل الطبقة الفقيرة؛ غير أن قراءة لكرونولوجيا الأحداث منذ حرب التحرير إلى اليوم تثبت أن المخطط الذي استهدف المنطقة المغاربية نجح بشكل كبير في الجزائر؛ وهو ذات المخطط الذي استهدف الدول المتخلفة. واتضح أن كل الشعوب العربية التي دخلت غمار الاستقلال كانت ضحية هذا المخطط، وأن دول هذه الشعوب تحولت بشكل أو بآخر خادمة لهذا المخطط، ولا سيما بعض الأنظمة التي نجحت في تجفيف منابع الديمقراطية بشكل مطلق. مع سقوط الاتحاد السوفييتي، انتفض الشارع الجزائري، ومن المفارقات أن التلفزيون الجزائري بث تلك الانتفاضة على المباشر، فسارع النظام إلى تغيير الدستور والإصلاح السياسي وفتح التعددية الحزبية، وانفتح النقاش الديمقراطي على مصراعيه؛ وحدث ما حدث، وعادت ريمة إلى أسوأ من عادتها القديمة... فأين ذهبت الثورة؟ وأين ذهب التغيير؟ النظام الجزائري اقترف جرائم لا تقل فظاعة عن جرائم إسرائيل، وظل بلا عقاب، تماما كإسرائيل. انتفض الشارع التونسي، وأرغمت الأحداث زين العابدين على الفرار، ويصر الشارع المصري على طرد حسني مبارك، وكذلك الشارع اليمني والأردني، وقد يأتي الدور على آخرين. لا يشكك في مشروعية هذه الانتفاضات إلا جاهل أو مجرم، ولا يحزن لسقوط رموز هذه الأنظمة إلا المنتفعين منها طبعا؛ لكن السؤال المطروح: هل يحمل الشارع بدائل تقيه شر المصير؟ هل الثورة التي تحدث في الشارع العربي، مصحوبة بثورة في الذهنيات وفي الوعي؟ أم مجرد انفجار حدث تحت الضغط؟ وما دام الشارع بهذه القوة فمن منعه من تربية السلطة منذ البدء، قبل أن يستشري الفساد ويتغول المفسدون؟ أحداث الشارع العربي فضحت النزعة الإجرامية للسلطة الحاكمة، فما أقدم عليه بوليس زين العابدين، وما نراه من تجليات هذا الإجرام في ميدان التحرير المصري، يؤكد أن الطبقة الفاسدة حالما تدرك أنها توشك على السقوط لاتهمها مصلحة الدولة وهي مستعدة لتدميرها، وهذا السلوك يترجم جهل هذه الطبقة وجشعها اللامحدود، وكل هذا وفر الشروط، بشكل أو بآخر، لنجاح المخطط في بسط تعاليم "الكاوس" على عدد من الدول العربية. هذه الأسئلة أطرحها وأنا أتابع الأحداث، وأحاول فهم مايجري، وفي ذات الوقت أحاول قراءتها من داخل المغرب، كما أحاول أن أقرأ في ضوئها الأفق المغربي. أزعم أني أعرف المغرب، وهذه المعرفة قادتني منذ سنوات إلى الاستنتاج التالي: إن قوة المغرب تكمن في كونه يسير على هدي دستور لا يزال يحافظ على عمقه وأصالته القابلة للتجدد، وهو دستور غير مدون رسميا، ولكنه منقوش في نفوس المغاربة وثقافتهم. ولهذا ظل المغرب من الدول المستعصية على المخطط، فقد نال استقلاله بأقل الخسائر، ورغم كل الانزلاقات والأخطاء والتعسفات، كانت هناك مساحة للعقل وللحكمة وللتفهم، وتلك المساحة صانت جهود قوى التغيير، ومن بينها القوى الديمقراطية. وأستغرب من بعض المثقفين والسياسيين المغاربة الذين يرون أن الشارع المغربي مرشح لمثل هذه الاحتجاجات. هناك فساد وفقر وبطالة في المغرب، وهناك إفلات من العقاب، هذا أمر لايمكن نكرانه، وبالمقابل هناك بدائل ومشاريع، وهناك إرادة للتغيير؛ يبقى فقط أن تحيط النخبة بمعيقات التغيير؛ من هي الجهات التي ترفض التغيير؟ وما الذي يجب فعله لتسريع وتيرة التغيير والرفع من جودته؟ أطلق الملك سلسلة من المبادرات: المصالحة والإنصاف، مشروع الجهوية الموسعة ومشروع الحكم الذاتي، ومشاريع تنموية، إنها مكونات مشروع ثوري يقتضي، فقط، قدرة على الاستيعاب والثقة، لأن الجهات الرافضة للتغيير تعمل على إفشال هذا المشروع دون أن تكشف عن هويتها. وعلينا أن نتساءل، وهذا من حقنا ومن واجبنا: هل هناك ديمقراطية داخل الأحزاب؟ إذا كانت الأحزاب ديمقراطية فهذا جيد، وإذا لم تكن، فماذا ينتظر مناضلوها الشرفاء؟؟ كيف يمكن أن تتحقق الديمقراطية بدون ديمقراطيين؟ كيف لسياسي يصل بطريقة غير ديمقراطية، أن يعطي لنفسه الحق في إعطاء دروس في الديمقراطية؟ وكيف لا يوقفه المجتمع المدني عند حده بالطرق المشروعة؟ ففي غياب ثقافة تعمل على تنمية الوعي وتهذيب الأخلاق والتربية على المواطنة، فما الجدوى من ملأ الشوارع بالضجيج والضحايا، وما الجدوى من معركة لا تنتهي سوى باستبدال أشخاص بأشخاص؟ عن الصحراء الأسبوعية 7 فبراير 2011