تالسينت.. مسيرة التنقيب عن الرزق على الأرض بعد تبخر حلم النفط في باطنها كلما ذكر اسم «تالسينت» إلا وأعاد الناس شريط حلم «البترول» الذي تبخر منذ عقد من الزمن، فأدرك وقتها سكان المنطقة أن قدرهم الاستمرار في حياة الفقر والبؤس، وأن الأمر يتطلب مواصلة البحث عن الرزق فوق سطح الأرض لكسب قوتهم اليومي في ظل واقع يتسم بضعف التطبيب وندرة فرص الشغل وقلة وسائل النقل، زادت من مرارته قساوة المناخ، خاصة في فصل الشتاء. أمارات البؤس والفقر في هذه المنطقة، التي تنتمي إداريا لإقليم فجيج، تعلو وجوه السكان الذين يعتمدون على تربية الماشية من أجل كسب قوت يومهم، فهي مورد رزق الوحيد. عبد الله، رجل تجاوز الستين من عمره، وما يزال يكابد من أجل العيش وتوفير حاجيات بناته وزوجته، فهو لم يرزق بمولود ذكر يساعده على تحمل أعباء الحياة. وبعد زواج بناته، ما يزال يواصل عمله في تربية الماشية التي يقول إنها لم تعد مجدية بفعل توالي سنوات الجفاف. يقول عبد الله: «إننا نعاني من التهميش وضيق ذات اليد، ساهم فيه بُعد المنطقة جغرافيا، إضافة إلى أن الفرحة التي دخلت قلوبنا منذ عشر سنوات لم تدم طويلا بعدما أن تبين أنه لا وجود لحقول بترول بالمنطقة». هذا حال مربي الماشية الذي تتطابق شهادته مع شهادات باقي رفاقه في المهنة، لأنهم يتقاسمون الهموم نفسها، ولا يقتصر الأمر عليهم بل يتجاوزهم حتى إلى الذين كان لديهم الحظ للعمل ضمن أسلاك الدولة، فهؤلاء أيضا يعيشون الظروف ذاتها. محمد أحيزون -عسكري متقاعد، أب لخمسة أطفال، اختار أن يقود عربة تجرها دراجة نارية لإيصال المواطنين إلى الوجهات التي يقصدونها- كان موجودا بمستشفى تالسينت بعد أن نقل إليه امرأة مريضة من أحد الدواوير المحاذية له. يتقاضى محمد 1800 درهم كمعاش بعدما حصل على تقاعده من الجيش، وهو مبلغ لا يكفيه لتغطية حاجيات أسرته الكبيرة. ملامح وجه هذا الرجل تدل على أن كاهله قد أثقله تدبرُ مورد رزق إضافي ليلبي متطلبات أولاده وزوجته الذين ينتظرون عودته كل مساء وهو محمل بحاجياتهم من مواد غذائية وغيرها. حلم تبخر أينما وليت وجهك بإقليم فكيك تجد عاطلا.. شباب عاطل تحول ظروفه المادية دون تنقله وسفره لاجتياز المباريات الوطنية للحصول على عمل يناسب مستواه التعليمي، أو حتى للبحث عن عمل في القطاع الخاص، ففي غياب ظروف وجمعيات تساعد على ذلك يختار بعضهم أن يمضي يومه في تأمل محيطه وإحصاء الساعات والأيام. عندما توجه سؤالا إلى الشباب حول ما إذا كان حلم أن تكون منطقتهم غنية بالبترول ما يزال يراودهم، تأتيك الأجوبة مختلفة، فهناك من يقول إن الأمر كان مجرد «كذبة» وإن الملف كانت وراءه شركة أمريكية كانت تهدف إلى رفع أسهمها في البورصة، بينما هناك من يقول إن المنطقة تحتوي على البترول وإنه لأسباب ما أجّل استخراجه، ودليلهم على ذلك أن الأبحاث والتنقيب عن البترول ما يزال جاريا بالمنطقة، لكن هناك من يضفي طابع المزاح على الموضوع، ليحكي لك نكاتا كانت وليدة الحدث، ومنها أنه قيل إن 10 دراهم كافية كي يملأ كل صاحب سيارة خزان وقوده ويطلب من صاحب محطة الوقود أن يعيد إليه «الصرف». وحتى الذين لم يعيشوا المرحلة، نقل إليهم آباؤهم حكاية «البترول»، ومنهم إكرام الإدريسي، وهي طفلة لم تتجاوز الثانية عشرة من عمرها، والتي انتهى إلى علمها أن قريتها الصغيرة عرفت حدثا جعل الجميع يحلم بأن وضعه المادي سيتغير بمعدل 180 درجة، وحُكي لها أن منطقة «أنوال» بضواحي تالسينت كانت محط تناول إعلامي وطني ودولي بعد الإعلان عن اكتشاف البترول بها. غير أن المنطقة التي صنفت ضمن المناطق الأكثر هشاشة، وهي من بين المناطق التي استفادت من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ما زالت ترزح تحت وطأة العديد من المشاكل التي يلخصها حسن أحدجي، رئيس جماعة تالسينت، في «ارتفاع عدد المعطلين وانعدام فرص الشغل لوجود العديد من الإكراهات، منها البعد الجغرافي». وضع صحي متدهور يستقبل المستشفى المحلي بتالسينت عددا من المرضى من كل من جماعة بوشاون وبومريم، وهو ما يمثل معاناة حقيقية للنساء وعائلاتهن، خصوصا مع استحضار الفقر المدقع الذي يثقل كاهل الساكنة. وقد توقف العمل بجهاز الكشف «الراديو» بهذا المستشفى منذ 1994 لعدم وجود الأطر الطبية التي تسهر على تشغيله، حسب ما أكده رئيس الجماعة. ويفتقر المستشفى المذكور، علاوة على ذلك، إلى أطباء متخصصين خاصة في الولادة، ففي حالة وجود حالة مستعصية فإنه يتم نقلها إلى مدينة ميسور أو الرشيدية أو بوعرفة. وكل هذه المدن تبعد عن تالسينت بأزيد من 200 كيلومتر، علما بأن المنطقة تعرف ارتفاعا في عدد الولادات. ولا يقتصر الأمر على تالسينت، بل يشمل أيضا بلدة بني تجيت، التي تبعد عن تالسينت بحوالي 30 كيلومترا. يقول إدريس بوسنينة، رئيس فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان ببني تجيت: «لا يوجد سوى مركز طبي يتيم، يوجد به ممرض واحد، بينما لا أثر فيه لأي طبيب بعدما غادره ثلاثة أطباء، كلهم ينتمون إلى الطب العام، آخرهم رحل خلال شهر يوليوز الماضي». لكن يبدو أن سكان المنطقة لديهم «طبيبهم» المتخصص في الأمراض الجلدية، والمقصود هنا حامة استشفائية لا تكلف سوى خمسة دراهم فقط «لا غلا على مسكين». وإن كانت الحاجة إلى التطبيب قد دفعت ببعض الجمعيات إلى البحث عن شراكات للنهوض بالقطاع، فإن هذه الجمعيات تُواجه بعراقيل لا نهاية لها، كما هو حال جمعية آيت وازاك، ببني تجيت، والتي قامت ببناء مستوصف بشراكة مع جمعية خارج المغرب منذ سنة 2005 وراسلت وزارة الصحة، التي سبق لها أن وافقت على المشروع، كي تطالبها بتزويد المستوصف بالموارد البشرية المطلوبة، فكان جواب الوزارة المعنية، الذي حرر سنة 2007 ولم تتوصل به الجمعية إلا هذه السنة عن طريق مندوب الصحة بإقليم فجيج، خارج السياق، حيث تم فيه تأكيد أن الوزارة لا تمانع في عقد شراكة ووضع التجهيزات الطبية الضرورية شريطة إنجاز المشروع وفق الشروط المعمول بها وتسليم البناية إلى الوزارة والتي ينبغي أن يراعى فيها توفرها على مسكن للممرض، فما كان من الجمعية إلا أن ردت على الوزارة بأنها لا تبحث عن شراكة بل إن البناية تم استكمالها بالفعل وتنتظر فقط تزويدها بالتجهيزات الضرورية وبالممرض، وما يزال السكان يعلقون آمالهم على هذه البناية ويتمنون وصول جوابهم إلى الجهة الوصية على القطاع خلال هذه السنة، وألا يكون مصيره مثل مصير جواب الوزارة الذي توصلت به الجمعية بعد مرور ثلاث سنوات على كتابته. شبح الثلوج مع قدوم كل موسم شتاء، يخيم شبح الثلوج على ساكنة ضواحي منطقة تالسينت، فسقوط كمية من الكريات البيضاء كاف لأن يحول حياة الناس هناك إلى جحيم لا يطاق، يضاف إلى حياة البؤس والفقر الذي تدل كل المظاهر على اكتواء الناس بناره. ويتسرب اليأس إلى السكان كلما نكث المسؤولون عهودهم وتبين لهم أن الخطابات والوعود التي يسوقها هؤلاء أمام عدسات الكاميرات لا تنفذ بكاملها، وإنما هي مجرد حروف جافة تخرج من أفواههم، وكمثال على ذلك أن الطريق التي تمت تهيئتها من تالسينت إلى أغمات عبر بلبول لم يتم تعبيدها بعد، وهذا سيؤدي إلى أن كل سقوط محتمل للثلج سيعيق عمل آليات إزالة الثلوج «كاسحات الثلوج أو التراكسات» من أجل فك الحصار عن المنطقة التي يتوقف نبضها، وتضيق السبل بأهلها ويكونون عرضة للعزلة عن محيطهم الخارجي. ويدق السكان ناقوس الخطر حتى لا تتكرر مأساة الماضي، حسب تصريحاتهم ل»المساء»، حين بقي الناس محاصرين لمدة زادت على العشرين يوما، وهو حصار ذاق مرارته بعض المسؤولين هناك بعدما ذهبوا إلى المنطقة في زيارة لها، مما جعلهم يعرفون عن قرب أن الشلل يصيب كل المرافق، من صحة وتعليم ونقل..، ويتعذر نقل المؤونة إلى هذه المرتفعات. ويقول رئيس جماعة تالسينت: «إن الطريق التي تمت تهيئتها والتي يبلغ طولها 40 كيلومترا، لم يتم تعبيدها، وهو ما يجعل كل الإصلاحات معلقة على أمل أن تفي وزارة التجهيز والنقل بتعهداتها وتمنح الأولية لدواوير تضم ما يقارب 4000 نسمة»، قدرها أن تعاني من قساوة المناخ وقهر الفقر. جشع النقل أثناء التنقل في المنطقة بين تالسينت وبني تجيت إلى بوعرفة، تفاجأ بجشع الذي يسفر عنه بعض سائقي سيارات الأجرة الكبيرة الذين يطلبون دائما أكثر من التسعيرة المتعارف عليها تحت مبرر أنهم لا يجدون مسافرين أثناء العودة، في حين أنهم وبمجرد ما يصلون إلى بيت القصيد، يركض نحوهم المسافرون من أجل الظفر بمقعد في سياراتهم، ووقتها تدرك أن الهدف مما يقدمه هؤلاء من مبررات هو كسب مال إضافي لا غير. مشكل النقل يظهر بجلاء في هذه المناطق، خصوصا إذا أردت مغادرة المنطقة نحو بوعرفة، فللوصول إلى هذه الأخيرة انطلاقا من بني تدجيت في سيارة أجرة كبيرة، عليك انتظار ساعات إلى حين اكتمال عدد المسافرين، ستة أشخاص، وبعدها المرور على الدرك الملكي ليحصل سائق السيارة على رخصة استثنائية من أجل السفر إلى بوعنان، وهي منطقة حدودية مع الجزائر، وبعدها تواصل طريقك نحو بوعرفة عبر حافلة قادمة من فاس، وإن كان حظك سيئا مثلنا فإن عدم مجيئها يجعلك تنتظر حافلة أخرى وتقضي ما يزيد على ست ساعات في بوعنان، ولن تنفعك وسيلة «أوطو صطوب» وإن لجأت إليها. «أزير» غطاء نباتي يتعرض للتدمير على أيدي مهربين بعدما تبخر حلم أن تصبح تالسينت منطقة بترولية، استمر السكان في البحث عن لقمة العيش في أرض الله الواسعة، ومنهم من اهتدى إلى استغلال ثروة طبيعة تتمثل في عشب يسمى «أزير»، وهو ما فعلته تعاونية «الأفق» التي تأسست سنة 2006، والتي تشغل حوالي 20 ألف يد عاملة في كل موسم، والذي يمتد من 30 مارس إلى 30 نونبر، حسب ما أكدته السعدية بوتلوت، رئيسة التعاونية. وتشتكي رئيسة التعاونية من التكاليف الكثيرة ووجود مشاكل في النقل لعدم تعبيد الطريق، زد على ذلك معضلة التهريب التي تتعرض لها هذه الثروة الطبيعية والتي يتم من خلالها قطع هذه الأعشاب بطريقة عشوائية ستجعلها تندثر. لوبي التهريب معروف في المنطقة، لكن لا أحد قادر على التصدي له، حسب رئيسة التعاونية، وكذلك الشأن بالنسبة على الذين يتهربون من الضرائب. التهريب حقيقة اعترف بها رئيس الجماعة نفسه الذي قال ل»المساء» إن هناك بالفعل تهريبا، ولكنه أضاف أنه من الصعب جدا مراقبته. ويقترح سكان المنطقة اعتماد حراسة منظمة لأن وجود حارس واحد للمياه والغابات لا يكفي، ولا يمكنه أن يخاطر بنفسه في ظل وجود لوبيات يعرفها الجميع، تجرؤ على إخراج الشاحنات أمام الملأ من المنطقة. ويؤكد رئيس الجماعة أنه ستتم المصادقة قريبا على تفويت استغلال أزير إلى تعاونيتين، وهناك نية لخلق اتحاد قوي، خاصة وأن هذه الأغراس طبيعية. واقع هذه الثروة الغابوية دفع جمعيات المجتمع المدني بقيادة تالسينت إلى توجيه رسائل إلى المؤسسات المعنية، ومنها وزارة الداخلية، أكدت فيها أن المنطقة لا تتوفر على موارد من شأنها أن ترفع من مستوى عيش المواطنين وأن تساهم في التنمية الاجتماعية باستثناء نبتة «أزير» ذات الجودة العالية، غير أنها ظلت لسنين تتعرض للنهب على أيدي مهربين معروفين لدى الجميع. وأكد ممثلو جمعيات المجتمع المدني أن المهربين يقفون حجر عثرة في طريق إنشاء تعاونيات مختصة في استغلال النباتات الطبية والعطرية، كما يلجأ هؤلاء إلى إلحاق أضرار جسيمة بهذا الغطاء النباتي عبر استعمال طرق للقطع تتلف هذه النبتة الطبيعية. وطالب النسيج الجمعوي بالتدخل لوضع حد للمهربين الذين يتملصون من أداء الضرائب، وكانوا سببا في خسارة التعاونية الوحيدة بالمنطقة