دخلت مدونة السير حيز التنفيذ، وقبلها خضعت الموانئ المغربية لقانون التحرير الذي ووجه بدوره بحركات احتجاجية فاقت بكثير الحركة التي ووجه بها المشروع الأول لمدونة السير. وبعد أن كان من المنتظر أن يسفر القانونان الجديدان عن تحسين ظروف عمل المقاولة المغربية وعن استفادة المستهلك المغربي من النتائج الموضوعية للمنافسة، فإن الاقتناع الجماعي بضرورة تنظيم قطاعي النقل والموانئ، كان وراء تقدم عدة أطراف بمئات التعديلات على النص الأصلي، ووراء التشبث بتوفير الإجراءات المواكبة لتفادي مخاطر التطبيق الأعمى للقانون، وكأن الهدف هو التوفر على قانون منظم مهما كانت نتائجه ومهما كانت كلفته. بعد حوالي أسبوع واحد من تطبيق مدونة السير، ارتفعت أسعار العديد من السلع الأكثر استهلاكاً بما فيها المواد المستفيدة من الدعم الحكومي، وقبل ذلك حافظت أسعار الخدمات المينائية على مستوياتها المرتفعة ضداً على الوعود التي أعطيت طيلة مرحلة تسويق المشروع ، والتي قامت على أساس أن التحرير سيخلق فرصاًً جديدة للرفع من الصادرات ولتقليص الكلفة عند الاستيراد. النتائج السلبية المحققة ليست في الواقع إلا نتيجة حتمية لسوء تدبير قطاع حيوي، ومن غير المستبعد أن يكون ما وقع أهون بكثير من المنتظر وقوعه. ومهما يكن، فإن الخلل الأساسي لا يكمن في الصيغة النهائية للقانون المصادق عليه، وإنما في الإجراءات التي واكبت مرحلة إعداد مشاريع القوانين. لفهم ما جرى، لنا أن نتساءل عما إذا كان من عارضوا مشاريع القوانين في بدايتها ونظموا عدة حركات احتجاجية ،أسفرت عدة مرات عن شل حركة النقل، إما في مرافق حساسة كميناء الدارالبيضاء وميناء طنجة وإما في النقل الطرقي للبضائع، قد اقتنعوا في نهاية المطاف بمنطق الوزير الوصي أم أنهم تأقلموا مع الوضع الجديد وقبلوا بالتخلي عن المبادئ والشعارات التي كثيراً ما اعتمدوها في تعبئة المهنيين مقابل الحفاظ على مصالحهم وتطويرها وتوسيع دائرتها. لنا كذلك أن نتساءل كيف أن شركة الحراسة الخاصة «LBS» المملوكة لابنة الزعيم النقابي الراحل المحجوب بن الصديق ازدهرت خلال مرحلة الإعداد والمصادقة على قانون التحرير والمدونة، لدرجة أن عدد مستخدميها ارتفع إلى حوالي 5000 مستخدم، موزعين عبر التراب الوطني أو بلغة أدق عبر الموانئ والقطارات والمحطات الطرقية وما إلى ذلك من المؤسسات والمصالح المرتبطة بوزارة التجهيز والنقل، وكيف أن هذه الشركة صارت مباشرة بعد موت الزعيم النقابي، عرضة للإفلاس؟. ولنا أن نتساءل عن علاقة السياسي بالنقابي في هذا المسلسل الذي لم يستفد منه إلا من ساند الوزير، ولو ضداً على قناعاته، بينما باقي الفاعلين وخاصة منهم أرباب صغار المقاولات الصغرى والمتوسطة، بالإضافة إلى المستخدمين في القطاع، صاروا عرضة للإفلاس وتدني مستوى العيش. إن منطق الشفافية وتكافؤ الفرص الذي يتبناه المغرب، تعزز بإنشاء أجهزة متعددة للمراقبة والمحاسبة، وقد يكون من المنطقي أن تتحرك هذه الآليات لتفحص مختلف الوقائع التي ميزت مرحلة المصادقة على قانون تحرير الموانئ وعلى مدونة السير. فأقل ما يمكن أن يسفر عنه هذا التحرك، هو إعادة الطمأنينة للنفوس وتوفير المناخ الملائم لحماية المقاولات المغربية من منافسة المقاولات الأجنبية العاملة بالمغرب، ومن هيمنتها داخل التراب الوطني. وإذا كانت الصيغة التي تم بها إقرار التحرير والمدونة قد أضرت بالاقتصاد الوطني، وبالقدرة الشرائية للأسر المغربية، بل وبمصداقية العمل السياسي، فإن الباب لا يزال مفتوحاً على مصراعيه أمام تصحيح الأخطاء قبل تفشيها وهيمنتها على العلاقات المتحكمة في الحياة اليومية للمقاولات والأسر. فبعد أن قطع المغرب أشواطاً هامة في مجال الأهداف الإنمائية للألفية، المعتمد من طرف هيئة الأممالمتحدة، وبعدما تأكد أن الاستمرار في هذا النهج يمر بالضرورة عبر تسخير الإمكانيات الذاتية لكل بلد، فقد صارت مخاطر تدهور قطاع النقل تهدد بانتشار البطالة وبتراجع مستوى الخدمات، وبارتفاع كلفة المعيشة، بل وبتبعية المغرب للهيمنة الأجنبية، وهذا في حد ذاته يقتضي وضع حد للنزيف قبل فوات الأوان، ويقتضي حكامة تخدم مصالح الوطن والمواطنين وليس مصالح البعض على حساب الحاجيات الأولية لأوسع الشرائح الاجتماعية.