انطلاقا من الشعار الذي رفعه مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة ” نحو بحث علمي يصغي لأسئلة المجتمع ومجتمع يسترشد بالبحث العلمي”، اقترح المركز المشروع البحثي التالي: ” تحولات المجتمع المغربي المعاصر”. هذا المشروع البحثي الذي يستهدف إنتاج معرفة علمية حول المجتمع المغربي ينبثق من الإحساس بالمسؤولية المجتمعية. ذلك أن دور المؤسسة العلمية البحثية هو فهم الظواهر المجتمعية والسعي لتبين مكامن القوة والضعف في المجتمع. بداية هناك جملة من الأسئلة يطرحها مثل هذا المشروع منها ما يتعلق بمبررات اختيار موضوع المشروع، ومنها ما يتعلق بطبيعة المهام الملقاة على عاتق المركز لإنجازه، ومنها ما يرتبط بالوسائل والإمكانات لإنجاز هذا المشروع البحثي؟ - مبررات اقتراح المشروع: لقد عرف المجتمع المغربي في العصر الحديث تحولات مست مختلف بنياته الثقافية والاجتماعية والسياسية. هذه التحولات التي خلخلت بنياته التقليدية وأثرت على مساراته التاريخية هي وليدة عوامل وديناميات، منها ما هو ذاتي مرتبط السيرورة التاريخية للأمة، ومنها ما هو خارجي نتيجة الاحتكاك والتصادم مع أوروبا. زيادة على كون هذه التأثيرات جاءتنا من دول وثقافات لا تنتمي إلى المجال الحضاري للمغرب، فإن الجديد فيها أنها حصلت في سياقات تاريخية ومعرفية تختلف جذريا عن السياقات التاريخية التي عرفتها الإنسانية طيلة تاريخها من حيث منطقها الداخلي ونمط تمثلها للقيم والحياة. فإذا كانت عملية التأثير والتأثر قانونا تاريخيا شمل تاريخ العلاقات الإنسانية منذ القدم، فإن مداه لم يكن ليتجاوز البنيات الفوقية للمجتمع. مع الحملة الغربية الحديثة، فإن نظام القيم المجتمعية تعرض لخلخلة عنيفة مست جوهر تمثل الناس للحياة وامتد تأثيرها عميقا ليشمل البنيات المجتمعية ونظام القيم المؤطرة لهذه البنيات ولنظام العلاقات الإنسانية. إن أخطر ما في الأمر، هو كون هذه العوامل الخارجية أصبح لها الدور الحاسم في توجيه كثير من المسارات المجتمعية. وقد ظهرت هذه التحولات جلية في نظام الأسرة باعتباره نموذجا حيا لعمق هذه التأثيرات الخارجية. فقد عرفت الأسرة المغربية تحولات عميقة لعل أبرزها الاضمحلال المتزايد للأسرة الممتدة التي كانت تشكل النموذج المثال للأسرة التقليدية لصالح الأسرة النووية. هذا التحول على مستوى الشكل نتج عنه تحول على مستوى الروابط الأسرية ونظام قيم التضامن المجتمعي. بل امتد هذا التحول إلى مستوى المرجعيات المؤطرة للمجتمع، حيث شهد تنازعا متصاعدا بين المرجعية الدينية بمختلف تمثلاتها والمرجعيات المسماة كونية ذات الجذور الغربية، مما أثر سلبا على نظام التوافقات المجتمعية وعلى تمثلات النخب لمفهوم المصلحة الوطنية وممارستها له. - ما المطلوب من المركز؟ إن هذا المشروع البحثي الذي يستهدف إنتاج معرفة علمية حول المجتمع المغربي ينبثق من الإحساس بالمسؤولية المجتمعية. فهذه التحولات ومساراتها تطرح على مركزنا مسؤولية مواكبتها وفهم منطقها الداخلي والعوامل المؤثرة فيها. ووظيفة المركز في هذا الإطار هو خلق وعي بحجم هذه التحولات ومساراتها عبر المقاربة العلمية لقضايا المجتمع. ذلك أن دور المؤسسة العلمية البحثية هو فهم الظواهر المجتمعية والسعي لتبين مكامن القوة والضعف في المجتمع. لكن دور المركز لا يقتصر على إنتاج معرفة أكاديمية محضة بل المطلوب منه بوصفه مؤسسة بحثية هو المساهمة في ترشيد حركة المجتمع عبر إنتاج معرفة فاعلة وهذا لن يتأتى إلا من خلال الإنصات أولا للمجتمع عبر هيئاته الفاعلة، بل وإشراكها في إنتاج معرفة مجتمعية. - سبل ووسائل الإنجاز إن عمق هذه التحولات المجتمعية وطبيعة دور المركز في هذا الإطار يتطلب تحديد جملة من المهام والتكاليف ذات الطابع المنهجي والإجرائي: على المستوى المنهجي: إن وعي عمق التحولات المجتمعية يتطلب إدراكا عميقا للآليات المنتجة لها، ولدور الفاعلين من مؤسسات وأفراد وخطابات مساهمة في إنتاج هذه التحولات وتلقيها. وهذا يتطلب من المركز على المستوى المنهجي: أولا: فتح قنوات الاتصال والتعاون مع مكونات المجتمع المدني بمختلف أطيافها باعتبار القرب الذي تعيشه هذه الهيئات من قضايا الناس اليومية من جهة، ولتنوع مجالات اشتغالها من جهة ثانية. بل إن هذه الهيئات “تصنع” في كثير من الأحيان “المشكلة الاجتماعية” عبر تسليطها الضوء على حالات اجتماعية معينة وإغفالها لحالات أخرى (مثال قضيتي العنف ضد المرأة والزنا). ويمكن للمركز في هذا الإطار أن يلعب دور الأداة أو الذراع الأكاديمي لهذه الهيئات المجتمعية. فمنها يستنبط الأسئلة المجتمعية ومعها يسائل الحلول والاقتراحات ومنطق الاشتغال ضمن المجتمع. فوظيفة البحث الأكاديمي عموما هو تحويل الخبرة الميدانية التي تمتلكها هذه الهيئات إلى معرفة علمية قابلة للتركيز والنمذجة. أي أن وظيفة المركز في هذا الإطار مزدوجة، فبقدر ما هي تستهدف تحديد القضايا المجتمعية الملحة، بقدر ما تجعل من ممارسات المجتمع المدني موضوعا قابلا للتداول والنقاش العلمي لما له من أثر على المجتمع. ثانيا: مساءلة الرصيد المعرفي لبحوث وكتابات عالجت العديد من القضايا المجتمعية عبر المقاربة النقدية للصور النمطية التي تشكلت من خلال هذه الكتابات عن المجتمع المغربي. كما أنه لا بد من مدارسة ومساءلة النماذج والأدوات المعرفية المؤطرة للاشتغال العلمي حول المجتمع المغربي والتي من خلالها صنعت هذه الصور النمطية وغير النمطية. ثالثا: هذه التحولات لا تصنعها ممارسات فقط وإنما أيضا خطابات عبر توجيهها أو شرعنتها باسم الدين أو الحداثة أو الخصوصية. فالتحولات يساهم في صناعتها سلبا أو إيجابا خطابات فاعلين متعددين، من إعلاميين وخطباء وفاعلين سياسيين واجتماعيين. كما أن خطابات الإشهار تساهم أيضا بدورها في توجيه هذه التحولات بما تصنعه من ميولات وتوجهات وأنماط استهلاكية. فمثلا الخطاب الإشهاري للتأمين يساهم في توجيه إدراك للناس للحياة ولأشكال التضامن المجتمعي. هذا الطابع الإنجازي القيمي لهذه الخطابات يفرض علينا أن نأخذها بعين الاعتبار أثناء دراستنا لهذه التحولات. رابعا: لا يمكننا الحديث عن تحولات مجتمعية ما لم نضع هذه الأسئلة المجتمعية في إطارها التاريخي والحضاري. فباعتبار أن المجتمع المغربي مجتمع تاريخي حسب تعبير علماء الاجتماع، فإن التاريخ فاعل أساسي فيه عبر بنيات ذهنية وقيم حضارية ومؤسسات اجتماعية ما زال مفعولها مستمرا بدرجات متفاوتة منذ آماد بعيدة. وبالتالي فهذا البعد التاريخي والحضاري لا يمكن تجاوزه لفهم سياقات تحولات المجتمع المغربي وأشكال التدخل لتوجيه مساراته. فمسارات هذه التحولات وحجمها بل إن إيجابياتها وسلبياتها لا يمكن فهم مداها دون بناء تاريخها. إن تكامل هذه الأبعاد والمقاربات السالفة الذكر هي وسيلتنا لتحديد نوعية وطبيعة الأسئلة والقضايا المجتمعية، ومن ثم إيجاد النماذج التفسيرية القادرة على تفسير الظواهر المجتمعية، وعلى ردف العمل الاجتماعي التضامني لكي يؤدي أدواره على أحسن وجه. إن المقاربات المعرفية المختلفة (الإبستتمولوجية والسوسيولوجية والسوسيولغوية، والحضارية…) في تكاملها مع سياسة القرب من الفاعلين المجتمعيين بمختلف تنوعاتهم هي ضرورة منهجية لتمييز الحقيقي من المزيف من هذه الأسئلة والقضايا المجتمعية. على المستوى الإجرائي: إن تنزيل هذه الأبعاد يتطلب منا جملة من الإجراءات على مستوى اشتغال الوحدات العلمية سواء من حيث نمط الاشتغال وموضوعه. لذا نقترح ما يلي: 1. إن إنجاز المهمتين المتمثلتين في كشف الأسئلة المجتمعية ورصد المقاربات السوسيولوجية والإبستيموسوسيولوجية المشار إليهما آنفا يتطلب الدمج بين وحدتي الدراسات الميدانية والاجتماعية نتيجة تداخل هذين البعدين المعرفي والميداني في الموضوع. أي أن مهمة هذه الوحدة المندمجة هو التنسيق مع مؤسسات المجتمع المدني من جهة وتحديد أنماط وبرامج الاشتغال معه من جهة، ومتابعة الأبعاد المعرفية والإبستيمولوجية للأسئلة والقضايا المجتمعية. 2. إن البناء النظري لقيم المجتمع المغربي وللمفاهيم المؤطرة لموضوع التحولات يتطلب إحياء الورشة النظرية لتقوم بدورها في هذا المجال النظري. 3. أما وحدة الدراسات الفنية والجمالية فإن وظيفتها مزدوجة تقريرية وإنشائية. فهي من ناحية أولى تدرس وتحلل القيم المبثوثة ضمن الأعمال الفنية والجمالية، وتساهم عبر تشجيع ودعم بل وإنجاز أعمال فنية في نشر القيم الحضارية للأمة من ناحية أخرى. إن الفن تبصرة وبصيرة: تبصرة بما تقدمه من أدوات لفهم واقعنا، وبصيرة بما تفتح من آفاق جديدة للأمة. وهذا يتطلب عمليا دعما بشريا ولوجيستيكيا لهذه الوحدة. البرنامج المرحلي: السنة الأولى من المشروع 2010 – 2011 إن مدارسة تحولات المجتمع المغربي متشعبة الامتدادات والمستويات. فهناك تحولات على مستوى المؤسسات وهناك تحولات على مستوى الممارسات وهناك تحولات على مستوى الأفكار والقيم. وهذه التحولات متداخلة فيما بينها حيث يصعب فصل مستوى عن آخر. فالتحولات على مستوى المؤسسات مثلا لها آثار مباشرة وغير مباشرة على المستويات الأخرى. ويصدق الأمر بالنسبة للمستويات الأخرى. لكن لا بد لنا على المستوى الإجرائي في كل مرحلة من مراحل الإنجاز من تحديد مدخل معين لمدارسة هذه التحولات يكون أقدر على التعبير عن هذه التحولات في شموليتها. ولعل مدخل القيم هو الأنسب لنا لمدارسة هذه التحولات. فهناك تمثلات للقيم على مستوى المخيال والتصورات، وهناك ممارسات لها على مستوى الواقع سواء كأفراد أو مؤسسات، حيث تساهم كل هذه المستويات في إنتاج القيم وتصريفها عبر آلياتها الخاصة. وفي هذا الإطار نقترح كخطوة أولى تحديد سلة من القيم قصد مدارسة تمثلاتها من طرف المجتمع المغربي وممارساتها لهاته القيم. نقترح أن تكون السنة الأولى سنة تمهيدية للمشروع. بمعنى أن هذه السنة ستركز على تنظيم آليات الاشتغال على موضوع جزئي من أجل التحكم في جزئياته في مرحلة محددة وتكون في نفس الوقت فرصة اختبارية للفريق العلمي للمشروع. ونقترح لذلك الموضوع التالي: المجتمع المغربي وسؤال التضامن الاجتماعي. هذا الموضوع يستهدف الإجابة على مجموعة من الأسئلة، من بينها: - كيف يتمثل المغاربة اليوم قيمة التضامن الاجتماعي؟ وكيف يمارسونها سواء كأفراد أو كمؤسسات؟ - مأسسة التضامن الاجتماعي ، ماذا أفادت؟ وماذا أضاعت؟ - ما علاقة تحولات المجتمع المغربي بقيمة التضامن الاجتماعي ؟ أو كيف يؤثر نمط الحياة المعاصرة على تمثل المغاربة وممارستهم لهاته القيمة الاجتماعية؟ - كيف عاش المغاربة هذه القيمة عبر تاريخهم؟ وكيف تمثلوها؟ - ما هو دور الدين في تمثل المغاربة وممارستهم لهاته القيمة؟ - ما هي آليات الفعل التضامني الاجتماعي في المغرب؟ من هم صانعوه ومن هم رواده؟ وما علاقته بأشكال الفعل المجتمعي عموما، السياسي والثقافي منه؟ - ما آثار المؤسسات الحديثة من مؤسسات الإقراض وشركات التأمين على تمثل المغاربة وممارستهم لهاته القيمة؟ - ما دور الخارج في صناعة التضامن الاجتماعي وتوجيهه؟ وما آثار هذا الدور على البنية التضامنية المحلية؟ - وما هو مستقبل التضامن الاجتماعي المغربي؟ يمكن الإجابة على هذه الأسئلة عبر الصيغتين التاليتين: 1. إنجاز بحوث في مواضيع معينة من خلال استكتاب مجموعة من الباحثين في المجال المقصود 2. تنظيم سلسلة من المحاضرات والحلقات العلمية والحوارية والندوات والأيام الدراسية تتناول مختلف أبعاد المشروع البحثي. ونقترح في هذا الإطار على سبيل المثال لا الحصر: - تنظيم سلسلة من المحاضرات العلمية يؤطرها باحثون وخبراء في المجال الاجتماعي. - تنشيط جلسات حوارية مع الفاعلين في المجال. - تنظيم أيام دراسية تعالج تجارب وجوانب معينة من الموضوع. - تنظيم مؤتمر دولي حول التضامن الاجتماعي يشارك في تأطيره العاملون ضمن مؤسسات التضامن الاجتماعي المحلية والدولية من جهة، والباحثون المختصون في المجال الاجتماعي قصد تكوين رؤية متكاملة في المجال.