تشن الولاياتالمتحدةالأمريكية حربا شعواء لا هوادة فيها على الفلسطينيين في الوسط الشرقي من فلسطين (الضفة الغربية)، وهي تستعمل أساليب صفقة وحقيرة وصلفة من أجل إركاع الشعب وتذليله وإذلاله وإخضاعه، وتحويله إلى مجرد جثث هوجائية تحل في أجساد بشرية حيوانية لا تعرف حقوقا، ولا تثأر لكرامة ولا تبحث عن عزة وشأن. يتعرض الوسط الشرقي من فلسطين لخطر داهم على يد الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهو خطر أشد من الخطر الذي يمثله الاحتلال الصهيوني، ذلك لأنه يهدف إلى هدم الشعب وتحويله إلى أفراد مرتزقة يقايضون، بوعي أو بدون وعي، وطنهم وأعراضهم ومستقبل أبنائهم وأحفادهم بكمشة بسيطة من المال، وبمصالح معيشية يومية غير دائمة. الاحتلال يفرض التحدي، وفشل عبر السنين في تذويب شعب فلسطين، وفشل في قتل الحقوق الوطنية للشعب، لكن الأمريكيين بالتعاون مع عملائهم الفلسطينيين من سياسيين وأكاديميين ومثقفين مزورين يحققون نجاحا متزايدا، ويعملون بدأب على تغييب الوعي وتمزيق الشعب وتفتيته. المسألة لا تقف عند جرس إنذار لأن الجرس قد دُق مرارا وتكرارا، وتتعدى ذلك لتشكل خطرا استراتيجيا مرعبا على مصير الشعب والوطن، ولتصنع من الشعب الفلسطيني مهزلة تارخية تتندر بها الشعوب كمثال على السذاجة والاستهتار الأخلاقي وتغليب المصالح الذاتية على الأوطان والمقدسات والأعراض. إننا أمام تحد عظيم يفرض على الشعب الفلسطيني مهمة ضخمة وقاسية ومقدسة لا يمكن تجاوزها لصالح الفذلكات الدبلوماسية والسياسية، وهي تتطلب جهودا كبيرة من كل واحد منا: رجل وامرأة، شاب وشابة، عامل وفلاح، مهني وحرفي، مثقف وطني وغير مثقف. نحن جميعا أمام اختبار تاريخي: فإما أن تتمزق بواقي ورق التوت وتتكشف عوراتنا تماما، أو نقف جميعا متلاحمين نقتسم الرغيف ويحمل كل منا الآخر فترتفع أعناقنا لنعيد لشعب فلسطين هيبته وكرامته وإصراره على انتزاع حقوقه. مسارات في السياسة الخارجية الأمريكية لهذه الحرب الأمريكية ملامح رئيسية ومعالم وخطوات عملية نلمسها في الحياة اليومية للوسط الشرقي. لكن قبل أن آتي على عناوين هذه الحرب، أقدم اختزالا لمسارات السياسة الخارجية الأمريكية الاستقطابية المتبعة مع الأفلاك والتابعين والمرشحين والمؤدية في النهاية إلى السيطرة. تفضل الولاياتالمتحدة أن تتبع أسلوب تثقيف الأمم الأخرى على الطريقة الأمريكية لكي يصبح أبناؤها أمريكيين بالثقافة، ويعملون على تبني السياسة الأمريكية بطريقة تلقائية بناء على تشريب تربوي. هذه مهمة يقوم بها أبناء الدول المستهدفة من المثقفين والأكاديميين الذين تغريهم الأموال والنعم الأمريكية. وقد أقامت أمريكا نحو هذا الهدف آلاف المراكز والجمعيات عبر العالم التي تسوق لها فكرها وثقافتها، وهي تغدق عليها أموالا بمئات الملايين من الدولارات سنويا. المسار الثاني يتعلق بالهيمنة الاقتصادية والمالية وفحواها أن أمريكا تتباكى بداية على الأحوال الاقتصادية للناس فتقدم لهم المنح أو القروض بخاصة من خلال المؤسسة الاستعمارية المعروفة بالبنك الدولي. تبدأ أمريكا بإغراق الحكام ببعض المال وتجنيدهم لخدمة أهدافها، وربط مقدرات البلاد بالاستثمارات المالية الأمريكية، وخطوة خطوة تغرق البلاد المعنية بالديون، ويتحول اقتصادها إلى مجرد تابع لا يقوى على الحركة بدون التخطيط والتوجيه الأمريكيين. وتعمل أمريكا بداية على إقامة مشاريع تسر الحكومة والناس، لكنها في النهاية تمص اللحم والعظم. تعمل أمريكا على استبدال زعماء بآخرين إذا لم تجد تجاوبا. إنه من السهل عليها أن تطيح بزعامات لأنها تخترق أمن الدول، وتملك أموالا كثيرة لتجنيد العملاء، ووسائل قتالية متنوعة لتقديم الدعم العسكري إن لزم. تتوجه أمريكا بعد ذلك إلى العقوبات الاقتصادية والحصار إن لم تتمخض السياسة الاقتصادية عن تبعية، آملة من خلال ذلك إركاع النظام القائم وإجباره على التنازل عن إرادة الأمة السياسية. وإن لم ينجح ذلك، تلجأ أمريكا إلى تقييم إمكانية القيام بعمل عسكري، وتهاجم فيما إذا رأت ذلك ضروريا ومفيدا. في فلسطين، تحقق أمريكا نجاحا من خلال التالي: رعاية التنسيق الأمني أمريكا هي التي ترعى التنسيق الأمني بين الفلسطينيين والإسرائيليين من خلال المنسق الأمني الأمريكي والذي يتبدل اسمه الشخصي بين الحين والآخر، وهي حريصة تماما على مراجعة أعمال الفلسطينيين الأمنية لتطمئن أنهم يتقيدون تماما بمتطلبات الأمن الإسرائيلية. تشارك أمريكا إسرائيل في تقييم وضع الأجهزة الأمنية الفلسطينية من نواحي التسليح والنزل والجهوزية والرواتب والتثقيف وأسس قبول الأشخاص في الأجهزة، ومقتضيات إنهاء خدماتهم. ومعا يعملان على تقييم المرشحين لقيادة الأجهزة الأمنية ومعاونيهم ومساعديهم المباشرين، وتقييم الضباط القائمين على عمليات خاصة، الخ. تصر أمريكا باستمرار على السلطة الفلسطينية الالتزام بمعايير وإجراءات ملاحقة الإرهاب والإرهابيين (أي المقاومة الفلسطينية)، وهي تحرض دائما على اعتقال أفراد المقاومة أو الذين يمكن أن يقاوموا من مختلف التنظيمات الفلسطينية بما فيها حركة فتح، وتقدم دائما النصائح والإرشادات، وتصدر أحيانا أوامر لأجهزة أمن السلطة. وفوق ذلك، يقوم ضباط أمريكيون وإسرائيليون بالتفتيش على مقار الأجهزة الأمنية في مختلف مناطق الضفة الغربية للتأكد من حسن التزام الفلسطينيين. أمريكا تعمل بجد واجتهاد على تحويل الفلسطينيين في الضفة الغربية إلى فرقة من المرتزقة على هامش الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وهناك من السياسيين والأكاديميين والعسكريين الفلسطينيين من يساعدها في ذلك، ويبرر لها أعمالها. الإشراف على الأمن الفلسطيني لا تكتفي أمريكا بالتأكد من التزام الفلسطينيين بمتطلبات الأمن الإسرائيلي، بل تعمل على الإمساك بالأمن الفلسطيني ليكون في قبضتها تماما فتسيره كيفما تشاء. وفي سبيل ذلك تعمل على: تقديم تمويل للأجهزة الأمنية خارج إطار ميزانية الدول المانحة التي توفر النفقات الجارية بصورة عامة. توظف أمريكا أموالا لبناء معسكرات ومقرات للأجهزة الأمنية الفلسطينية، وللإنفاق على التدريب سواء داخل فلسطيني أو في الأردن، أو أحيانا في إسرائيل والولاياتالمتحدة. وتساعد في تكاليف النفقات العسكرية، وتتأكد من أن السلاح الفلسطيني لا يعمل بكفاءة في مواجهة الإسرائيليين، وأنه كاف لمواجهة الفلسطينيين. طبعا أنا لا أشك للحظة بأن أمريكا لا تكتفي بعملائها المباشرين الذين يزودونها بالمعلومات، وهي تزرع مختلف المقار الأمنية الفلسطينية بمختلف أنواع أجهزة التنصت الدقيقة والحساسة والتي لا تكاد العين المجردة تدركها. ومن المحتمل جدا أن هذه الأجهزة موجودة في خلطات مواد البناء وأساسات الأبنية. أمريكا تستعين أيضا بمراقبين أوروبيين وكنديين بخاصة في مجال الشرطة لتتأكد أن ممارسات الشرطة لا تستثير الناس العاديين، وفي نفس الوقت تلتزم بالمعايير التي لا تتناقض مع الرغبات الإسرائيلية. الإمساك بأموال السلطة الفلسطينية عملت أمريكا منذ اللحظة الأولى لتطبيق اتفاق أوسلو، وجنبا إلى جنب مع إسرائيل، على التحكم بمصادر دخل السلطة الفلسطينية حتى لا يكون للسلطة، فيما إذا وقعت بأيد لا ترضى عنها أمريكا، قدرة على اتخاذ القرار. أمريكا تدرك أكثر من غيرها، ومن خلال تجاربها المتكررة في دول كثيرة أن الإمساك بالمال يعني الإمساك برقاب الحكام وشل قدرتهم على اتخاذ القرار. ولهذا عملت على إغراء العديد من القادة المدنيين والعسكريين بالمال بطرق متعددة لا تبدو الأمور فيها وكأنها رشوة، ودفعت باتجاه تضخيم الطواقم الإدارية في السلطة لزيادة أعداد الناس الذين يعتمدون على الرواتب المرتبطة بالدول المانحة. قدمت أمريكا الأموال لجهات عدة، وقدمت مع الدول الأوروبية آلاف السيارات الفاخرة وغير الفاخرة حتى يسهل على فلسطينيين مقايضة الحقوق الفلسطينية. لقد أنشأت طبقة من المستفيدين المباشرين في الجهازين المدني والعسكري وأثارت حسد العديد من الشعب الفلسطيني، كما أثارت احتقار عديدين آخرين. هذه طبقة موجودة الآن وتمسك بزمام الأمور الإدارية، وترى في نفسها قيادة حقيقية يجب أن يحسب لها ألف حساب على المستوى الشعبي. لقد أتت بأنواع متعددة من السيارات الحديثة الأمريكية الصنع واليابانية والألمانية، وقدمت الكثير من التسهيلات في التنقللات الداخلية والخارجية. شجعت أمريكا السلطة الفلسطينية على توظيف أكبر عدد ممكن في الأجهزة الأمنية والإدارية حتى بلغ عدد الموظفين حوالي 200,000، (لا أعلم العدد الآن بالضبط لأن هناك تكتم عليه) وهو عدد لا تحتاجه فلسطين. وقد بلغ عدد أفراد الأجهزة الأمنية حوالي 90,000، وهو رقم لا يحتاجه الوسط الشرقي بتاتا. الوسط الشرقي (الضفة) لا تحتاج إلا قوة شرطة متواضعة لحفظ الأمن الداخلي، أما الأمن الوطني فلا تستطيع القيام به إلا تنظيمات سرية تعمل بتكتم شديد ضد الاحتلال. صحيح أن الدول المانحة هي التي تصرف الأموال للسلطة الفلسطينية، لكنها لا تستطيع ذلك بدون إذن أمريكا وإسرائيل. أمريكا وإسرائيل تعطيان الإذن، والمرتبط أصلا بمدى اقتناع الدولتين بأداء الأجهزة الأمنية الفلسطينية. الإمساك بلقمة خبز الناس عدد الموظفين في السلطة الفلسطينية أكبر بكثير مما تحتاج السلطة الفلسطينية، كما أسلفت، لكن الهدف كان واضحا وهو ربط أكبر عدد من الفلسطينيين براتب آخر الشهر، وليفكر هذا العدد مرارا وتكرارا قبل تأييد سياسات قد تؤدي إلى عرقلة وصول الراتب. هذا الراتب لا يقصد منه مساعدة الناس وإنما مقايضتهم بالحقوق الوطنية الفلسطينية. إذا كان للشخص أن يحصل على راتب، فإن عليه تأييد السلطة الفلسطينية، والابتعاد عن تأييد سياسات لا تتوافق مع الاتفاقات مع إسرائيل. لقد جففوا ينابيع تدفق الأموال إلى الناس وحشروهم في زاوية الراتب الذي يعتبر شريان الخبز الرئيس، بل والوحيد لمئات آلاف الفلسطينيين في الوسط الشرقي. وإلى جانب ذلك، تم العمل على تعطيل أعمال إنتاجية كثيرة في الوسط الشرقي (الضفة) بسبب الاستيراد من الخارج. لقد أصرت الدول الغربية وعلى راسها الولاياتالمتحدة أن يكون الوسط الشرقي ضمن منظومة التجارة الحرة ولو بشكل غير رسمي من خلال اتفاقية باريس الاقتصادية، فتم تدمير جزء كبير من الإنتاج الفلسطيني. الفلاح لم يعد قادرا على العيش من خلال الزراعة، وتم ضرب النجار والحداد، وضرب العديد من المعامل والمصانع مثل معامل الأحذية في الخليل والخياطة في طولكرم. لقد ارتمى المنتجون في الشارع يستجدون المعونات من المنظمات غير الحكومية، وانتفخ عدد الموظفين الذين لا يعملون. لهدف واضح وهو نزع الإرادة السياسية الفلسطينية من خلال نزع القدرة الفلسطينية على الاعتماد على الذات. صحيح أن الوسط الشرقي غير قادر على تحقيق الاكتفاء الذاتي، لكن السياسة الاقتصادية القائمة على تطوير الاقتصاد بطريقة متناسبة مع متطلبات التحرير لا يمكن أن تقبل زيادة الاعتماد على الآخرين بخاصة عندما يكونون أعداء. لقد أوجز لي أحد موظفي السلطة الأمر عندما دار حديث حول سحب جزء من السيارات الحكومية من أيدي مستخدميها بالقول: "لقد تنازلت عن فلسطين مقابل السيارة، والآن لدي الاستعداد لأقاتل من أجل بقائها معي." وطبعا سيلقي الأمريكيون بالناس بالقمامة غدا بعدما يطمئنون أن الأنفاس الوطنية للناس قد ضاعت في زخم رغيف الخبز. صناعة القادة والتدخل في تعيينهم أمريكا تعمل منذ أواخر السبعينات على صناعة قيادات فلسطينية بخاصة من الأكاديميين والمثقفين. لقد بدأت بإقامة جمعيات غير حكومية تحت سمع وبصر الاحتلال بهدف استقطاب فلسطينينن وأغدقت عليهم الأموال. لقد تعرضت أنا نفسي إلى إغراء عام 1983 لاستقطابي نحو هذا المنزلق، لكنني رفضت. وحاول القنصل الأمريكي في القدس زياتي في بيتي قبل عقد مؤتمر مدريد ورفضت، والذي كان سيأتي، وفق الوسيط الذي كلمني، لإقناعي بالانضمام إلى الوفد الفلسطيني إلى مدريد. لقد ربّت أمريكا العديد من الأشخاص على يديها على مدى سنوات طويلة، ومنهم الآن من يتبوأون مراكز عليا في السلطة، ومنهم من يفاوضون. وفي كل مرة أسمع أحاديث عن المفاوضات والمقترحات والمقاربات، أشعر بالأسى على هذا الشعب الفلسطيني الذي يقدم التضحيات لأن إسرائيل في الغالب تفاوض نفسها، أو تناقش مع ممثلي الولاياتالمتحدةالفلسطينيين. أمريكا استحدثت للسلطة الفلسطينية منصب رئيس وزراء، وأصرت على أن يكون محمود عباس رئيسا للوزراء. وهي التي قامت بالضغط على عرفات لتعيين الدكتور سلام فياض وزيرا للمالية، ثم لعبت دورا رئيسيا في تعيينه رئيسا للوزراء. وعلى ذلك نقيس. إن من تصنعه أمريكا أو تعينه لا مفر سيلتزم بما تريد أمريكا، وأمريكا تعطيه هامشا للأخذ والرد حتى لا يظهر إمعة أو مجرد أداة بيدها. إنها تحاول ان تبقي للمتعاونين معها بعض الهيبة لكي يكونوا مقنعين على الأقل للسذج من الناس. أمريكا وإسرائيل تلمعان الزعماء المصنوعين بوسائل عدة مثل إشاعة بأن هذا الزعيم مهني ويدافع عن الحق، أو أنه نظيف اليد وليس كسابفيه من السارقين واللصوص، أو أنه صاحب علم وأخلاق. ومن الممكن أن تسجنه أحيانا ليكون لديه مصداقية، الخ. لكن الأهم الآن أن يكون هو القابض على المال، والذي يعتبر المصدر الأول للرواتب. صناعة المثقفين الأمريكيين لقاء المال، استطاعت أمريكا أن تصنع لنفسها طابورا من المثقفين والأكاديميين الفلسطينيين الذين يصفقون لها وينفذون سياساتها ويدافعون عن مواقفها. لقد قدمت أمريكا الكثير من الأموال لإنشاء مراكز للديمقراطية وحقوق الإنسان، وللدفاع عن المرأة وغير ذلك، من أجل استقطاب قيادات، وربط مثقفين بالدخل المالي الذي يحصلون عليه من خلال رواتبهم وحلهم وترحالهم. هناك عدد لا بأس به من أساتذة الجامعات انضموا إلى أسطول المثقفين المتأمريكين، والذين يتغذون على الحقوق الوطنية للشعب الفلسطين. هؤلاء المثقفون هم أبطال الغسيل الثقافي الذي من شأنه طمس ثقافة الشعب والأمة لصالح ثقافة غازية لا تهدف إلا إلى السيطرة والهيمنة، وهم يتركزون الآن في مدينة رام الله التي تتعرض لهجمة ثقافية مرعبة. انخرط العديد من المثقفين في جمع المعلومات عن الشعب الفلسطيني تحت مسمى البحث العلمي، وقدموا معلومات قيمة ساهمت في تحسين قدرة أمريكا، وقدرة دول غربية أخرى على اختراق المجتمع الفلسطيني، والنفاذ إليه بسياسات مبنية على استنتاجات وتوصيات هؤلاء المثقفين الفلسطينيين. وقد حصل هؤلاء على أموال طائلة إلى درجة أن ورقة من عدة صفحات كانت تأتي لصاحبها بأكثر من ألف دولار. هذا فضلا عن السفريات التي كانوا يحصلون عليها، والمؤتمرات التي كانوا يشاركون فيها والتي كانت تعقد داخل فلسطين وخارجها. هل رأى العالم فلسطينيا بسيطا كفلاح أو عامل أو حرفي يصافح صهيونيا بهدف بيع الوطن أو يقيم معه علاقات أو يساوم على فلسطين؟ هذه أمور لم يجرؤ على القيام بها إلى الذين دست أمريكا في أفواههم الدولارات من المثقفين والأكاديميين. تقديم أموال الدعم عدا عن الإمساك بميزانية السلطة وتوجيهها بالطريقة التي تراها مناسبة لأمن إسرائيل والتبعية المالية، تقوم الولاياتالمتحدة بإنفاق أموال على إقامة مشاريع مثل شق وتعبيد طرق، وبناء مدارس وعيادات صحية، وتمديد شبكات كهرباء وماء وذلك لتصنع لنفسها وجها جميلا في أعين الناس. عادة ما تتولى مؤسسة ال يو أس إيد مثل هذه المشاريع، والتي تنتشر لها الآن الكثير من اللافتات الدعائية في مختلف أنحاء الضفة الغربية. تريد أمريكا أن يذوق الناس طعم الرفاه حتى لا تشغلهم الهموم الوطنية. عندما يصاب الناس بالرفاه فإن معايير المصالح تتبدل وتتغير، ويتحول الناس إلى مصالحهم الخاصة بدل الانشغال بالهموم العامة. فمن ركب السيارة الفاخرة، وحصل على الخلوي، ووفر مالا للأكل في المطاعم، واستطاع السفر، وارتفع منسوب استهلاكه بصورة عامة، لا يفكر بالعودة إلى الوراء من أجل وطن. هذه قاعدة لا تنطبق على الجميع، لكنها تصف ظاهرة حاضرة وقوية في الشارع الفلسطيني. وينشط في هذا المجال البنك الدولي الذي طالما خدم الاستعمار الأمريكي، والذي يعمل باستمرار على دراسة الأوضاع الاقنصادية في الوسط الشرقي وتوجيهها بالطريقة التي تبقي على رقبة الفلسطينيين مربوطة بالإرادة الاقتصادية الأمريكية. وقد نجح هذا البنك مع مختلف عناصر العمل الأمريكي والعمالة الفلسطينية أن يوصل عددا كبيرا من الناس إلى درجة الاقتناع بأن الشعب الفلسطيني لا يمكن أن يستمر في الحياة إلا إذا كان متسولا. أعداد غفيرة من الناس تحتج عند مواجهتها بالحقيقة سائلة: أي من أين نأكل؟ نسي هؤلاء الناس والذين في أغلبهم يؤدون الصلاة والصيام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أن يحتطب أحدكم أفضل من أن يسأل الناس. ونسوا قوله إن اليد العليا خير من اليد السفلى. لقد ألقى الأمريكيون والمثقفون الفلسطينيون على عيون الشعب غشاوات مقيتة مضمونها الذل والهوان والتواكل. دعمت إسرائيل رئيس مجلس قروي في منطقة طولكرم لأنه التحق بروابط القرى التي كان من المفروض أن تمسك السلطة الفلسطينة، فعبدوا له طرقات بلدته، ومدوا له شبكة ماء وكهرباء، وحسنوا من أوضاع قريته. نظر الناس إلى تلك القرية، فتمنى بعضهم لو أن كل رؤساء المجالس القروية أعضاء في روابط القرى. لقد صنع الإسرائيليون من خلال الدعم المالي من ذلك المتعاون العميل بطلا في منطقته، وبطولته لم تكن سوى تخاذل وطني مقابل مشاريع غير مؤهلة للديمومة. وهذا ما تصنعه أمريكا على مستوى أعم وأشمل. هذا وتشهد تجارب الأمم أن البنك الدولي والأموال الأمريكية قد حفرا أخاديد المديونية، وأصبحت الدول مدينة غير قادرة على سداد خدمة الديون، وتحول حكامها إلى أدوات ومطايا للسياسة الأمريكية. الزعران (الأشقياء) المؤدبون ترسل أمريكا إلى فلسطين أمريكيين مدربين على خداع الناس واستقطابهم وإيهامهم بأن الخير كله لهم ومن أجلهم. أمريكا معنية بأشخاص يتقنون الزعرنة المؤدبة التي تبدو حلوة في ظاهرها، وهي خبيثة في داخلها. هؤلاء يتدربون على مسح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، على الرغم من أنهم ليسوا خبراء حقيقيين، ومن ثم يقدمون توصياتهم المختلفة والتي من شأنها في النهاية أن تخدم مصالح الولاياتالمتحدة لا مصالح الناس. فمثلا قال الخبراء الأمريكيون أن الخصخصة هي السياسة الاقتصادية الحكيمة والناجحة، ودفعوا السلطة إلى خصخصة ما هو موجود من مؤسسات اقتصادية مثل الكهرباء. هذه الخصخصة تعني أن الأرباح تصبح هي هاجس أصحاب الشركات، وليس فكرة تحرير الوطن واستعادة الحقوق. إذ كيف يمكن لشعب أن يسير في طريق خصخصة تقوم على هوس الأرباح وهو تحت الاحتلال؟ وجود الاحتلال يتطلب إقامة سياسة اقتصادية مبنية على التكافل والتضامن والتعاون، لا سياسات الأرباح. وللأسف نحن في فلسطين نتصرف كالبلهاء، ونسير مربوطين في ذيل الحمار الأمريكي. وكمثال آخر هو تخفيض الضرائب على السيارات. لقد سر الناس كثيرا من هذه الخطوة، ولكنهم لم يدركوا أن الهدف هو تعزيز العقلية الاستهلاكية لديهم، ودفعهم نحو الحصول على قروض من المؤسسات المالية في الوسط الشرقي. هؤلاء الزعران قادرون على تجميل القبيح، وهم يتمتعون بقدرة جدلية قوية، ويساعدهم في ذلك شعور العربي بالنقص الذي يجعل من أمريكي جاهل وفهلوي خبيرا. هؤلاء الخبراء الوهميون عبارة عن نصابين وأفاقين وجدليين تدربوا على الخداع والكذب وقلب الحقائق، وهم قادرون على التلاعب بحكام يدينون لأمريكا بوجودهم كحكام. التلاعب بالأرقام أمريكا تتلاعب بالأرقام بخاصة من خلال البنك الدولي الذي يصدر إحصائيات تشير إلى نجاح الحكام الذين تدعمهم أمريكا. فمثلا قد تتحدث الأرقام عن نمو اقتصادي كبير، في حين أن هذا النمو يذهب إلى جيوب الأثرياء ولا يرى منه الفقراء إلا النزر اليسير. أو قد تشير إلى زيادة أعداد السيارات مما يدل على الرفاه، لكن ذلك يتم على حساب القيم الوطنية والمسؤوليات الأخلاقية. أو قد تقول إن نسبة جبي الضرائب قد ازدادت، لكن دون أن تشير إلى ضغف الإنتاج، وهكذا. إنهم يوهمون الناس في الوسط الشرقي بأرقام لا تعبر عن الحقيقة وهي كالتالي: إنهم يعملون على زيادة الفجوة بين الخدمات والإنتاج، وبين الاستهلاك والإنتاج. إنهم معنيون أن يبقى المستوى الاستهلاكي في الوسط الشرقي أعلى من مستوى الإنتاج من أجل أن يبقى الشعب الفلسطيني تحت طائلة الديون، أو متسولا. مثل هذا الوضع لا يخدم إلا إسرائيل، ويتغذى على الروح الوطنية والإنسانية للشعب الفلسطيني. من يحكم الوسط الشرقي؟ الذين يحكمون الوسط الشرقي هم المنسق الأمني الأمريكي، والقنصل الأمريكي في القدس، والمخابرات المركزية الأمريكية. أما الوجوه التفلزيونية فهي فلسطينية. يعتمد هذا الثالوث على وكلاء أمن سريين وظاهريين، وعلى مؤسسة ال يو أس إيد، والبنك الدولي، وعلى المثقفين والسياسيين الفلسطينيين الذين قدموا أنفسهم لخدمة السياسة الأمريكية، وعلى أجهزة أمنية فلسطينية. ربما لم يكن بعضهم راغبا في تقديم هذه الخدمة بداية، لكنه الآن متورط حتى أذنيه، ولا يستطيع أن يخرج إلا إذا تغيرت الأحوال الفلسطينية في الوسط الشرقي بصورة جوهرية. الخلاصة يحقق الأمريكيون في حربهم على الشعب الفلسطيني نجاحا في الوسط الشرقي (الضفة)، لكنهم لم يحسموا المعركة بعد. ما زالت هناك قوى كبيرة ومنتشرة على الساحة تقف في وجه هذا العدوان المستمر، وهي بالحقيقة فاعلة ومن الممكن أن تضع كوابح على التقدم الأمريكي. لكن هذا الغزو يمكن أن يصاب بضربة قوية إذا نشطت المقاومة الفلسطينة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. منشورات الجزيرة -