مر اثنان وتسعون عاما على وعد بلفور الذي منحه بلفور وزير خارجية بريطانيا آنذاك، للبارون روتشلد، أحد ابرز المصرفيين في انجلترا ، بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وكأن فلسطين عبر تاريخها الطويل عامة، وفي مطلع القرن العشرين خاصة كانت أرضا خالية لا شعب فيها، أو قفرا لا عمران ولا زراعة ولا حضارة تموج بها مدنها وقراها. ولو أن بلفور زار فلسطين قبل وعده المشؤوم ، وتجول في حواضرها ، وعاين الشعب الفلسطيني الذي تجذر فيها خلال مئات السنين، وما ميز هذا الوطن من التقدم والعمران في كل أرجائها، وتحقق من الأغلبية السكانية الساحقة للمواطنين العرب الفلسطينيين على أرضها- فلربما كان له رأي آخر يتخطى الاعتبارات المادية والاستعمارية التي دفعت به، طوعا أو اختيارا، لإصدار وعده الكارثي. وهل كانت فلسطين ملكا لبلفور أو لبريطانيا بحيث يمكن لبلفور أو بريطانيا تقديمها كمنحة لروتشلد ولليهود بهذا الكرم الحاتمي؟ ومتى كانت الأوطان والأرض ومن يعيشون عليها من بني البشر اقطاعا يتصرف به الاستعماريون وينقلون ملكيته من طرف إلى آخر؟ فلسطين في ذلك الوقت كانت جزءا من الامبراطورية العثمانية، كما كان شأن العشرات من الأقاليم التي احتلتها العساكر العثمانية. وكان على بريطانيا أن تنصاع لمبدأ الرئيس الأميركي في ذلك الوقت، ودرو ويلسون، الذي نص على حق شعوب تلك الأقاليم في تقرير المصير فور انتهاء الحرب. لكن المؤامرات والدسائس الاستعمارية، والمطامع في خيرات الوطن العربي، والرغبة في تفتيت الأمة العربية، أفرزت العديد من المخططات السرية والوعود التي انتهكت مبدأ ويلسون، وقررت مصير شعوب الشرق العربي بعيدا عن ارادة شعوبه وحقها في السيادة والاستقلال مثل الشعوب الأخرى التي كانت تخضع للدولة العثمانية في شرق وجنوب أوروبا، وخصوصا دول البلقان. اثنان وتسعون عاما حافلة بالمعاناة والكوارث والتشريد مرت منذ وعد بلفور على الشعب الفلسطيني. ما يقارب القرن من الزمان سقط خلالها مئات الآلاف من أبناء هذا الشعب بين شهداء أو جرحى ودخل السجون والمعتقلات. ومثل هذا العدد أو أكثر، وتشرد بعيدا عن الوطن المئات من الآلاف أيضا. وأقيمت اسرائيل على ثلاثة ارباع فلسطين التاريخية عام 1948 ، ثم احتلت الربع الباقي عام 1967. وها هي تتوسع دون قيود أو حدود داخل الضفة الغربية في اطار ما سماه رئيس وزرائها الحالي، بنيامين نتنياهو، بالمهمة الاستيطانية المقدسة. وما يزال العالم والأسرة الدولية يتحدثان عن عملية السلام، بل إن وزيرة الخارجية الأميركية، هيلاري كلينتون، تريد استئناف مفاوضات السلام مع استمرار التوسع الاستيطاني. فأي سلام هذا الذي يسمح للمستوطنين بالاستيلاء على كل الأراضي الفلسطينية، ومحاصرة مواطنيها بالجدار وتقسيمها الى معازل وكنتونات مفتتة تشبه محميات الهنود الحمر في الولاياتالمتحدة الأميركية؟. والسؤال هو: كيف يمكن لشعب أن يبني دولته وسيادته على أنقاض سيادة واستقلال شعب آخر، وفي أي شرع يمكن لذلك أن يتحقق - عدا شرع الغاب بطبيعة الحال؟ وكيف ارتضت بريطانيا وغيرها من الدول ولا سيما الولاياتالمتحدة أن يعاني الشعب الفلسطيني من التشريد والحصار وويلات القتل والاغتيال والاعتقال والعقوبات الجماعية، وهي التي "تؤمن" بحقوق الإنسان وحقوق الشعوب ، كل الشعوب في تقرير المصير؟ من الواضح أن مفهوم حقوق الإنسان الذي نادت به وثيقة "الماغنا كارتا" البريطانية وإعلان الاستقلال الأميركي ودستور الولاياتالمتحدة الذي كتبه آباؤها المؤسسون- كل ذلك لا ينسحب عند التطبيق العملي على الشعوب المظلومة الأخرى. ووفقا لهذا المفهوم، فإن مبدأ المساواة بين الشعوب مقبول، "ولكن بعض الشعوب أكثر مساواة من الشعوب الأخرى" وفقا لما ورد في رواية «مزرعة الحيوانات» للكاتب الانجليزي جورج أورويل. وهكذا يتم احتلال اراضي تلك الشعوب وتحرم من حقوقها في الحرية والاستقلال داخل أوطانها. وعد بلفور يفترض أن يكون الزمن قد تخطاه، وأن تعتذر بريطانيا للشعب الفلسطيني على ما أحقه هذا الوعد بالشعب الفلسطيني من كوارث وويلات. وان تبذل قصارى جهدها متكاتفة مع المجتمع الدولي من أجل الحل السلمي العادل الذي يعيد للفلسطينيين حقوقهم، ويخفف من آثار ذلك الوعد المشؤوم الذي أضاع فرصة تاريخية لقيام دولة فلسطين الواحدة لكل سكانها من مسلمين ومسيحيين ويهود- وهو الحل الذي يبدو أن التوسع الاستيطاني الزاحف على الأراضي الفلسطينية دون هوادة سيؤدي حتما إليه، ما لم تتسارع الجهود لإنقاذ حل الدولتين الذي يتآكل فعليا أمام سمع كافة القوى الدولية وبصرها.