رجل بلغ الذروة في الفن الذي التصق به طول حياته والذي نبع من ربوع المنطقة الشرقية، دون أن يعرف له تاريخ محدد. إنه فن "العرفة"، والرجل المقصود هنا هو الشيخ أحمد. لقد برع هذا الإنسان في هذا النوع من الطرب الشعبي المحلي، وذهب في ممارسته بعمق وجودة إلى أبعد الحدود، حتى أنه امتزج به وصار لا يكاد يذكر دون أن يتبادر اسمه إلى الذهن. ويشهد الله أن الرجل قد عمر طويلا، ورغم ذلك فلم ين ولا ضعف نفسه ولا كل ساعده. ونحن نعلم أن الآلة الموسيقية التقليدية التي كان يستعملها، وهي "الزامر"، ثقيلة الوزن إلى حد ما. فهي تتألف من "زمارتين" صغيرتين يثبت طرفهما الأسفل في قصبتين أكثر منهما طولا وعرضا وبهما ثقوب متساوية (6 فتحات على الأرجح) بحيث يضع الشيخ أطراف أنامله فوق الثقوب عند النفخ، ويحركهما حسب تنوع الأنغام. كما أن القصبتين تولجان في قرنين من قرون الثيران، والكل مصمم ومضبوط بطريقة جيدة ومتقنة تنم عن ذوق رفيع وخبرة ودربة في الصنع والإبداع. وما أن يشرع الفنان في النفخ حتى تنتفخ وجنتاه ويصدر عن مزماره لحن وإيقاع لا يمكن إلا أن يهتز لهما الكيان ويخف الوجدان وتحرك الكوامن والأشجان. وكم أطربنا الشيخ أحمد وفرقته التي ترافقه ببناديرها المجلجلة، فيؤدي أحسن الأنغام المحلية مثل العلاوي والركادة والمنغوشي والنهاري، الخ. ولعل الخاصية البارزة في هذه الألحان هي رجوليتها المفرطة ومقدرتها الكبيرة على تحريك الناس ودفعهم دفعا إلى الرقص بالأرجل والأكتاف وباقي أجزاء الجسد، كل ذلك بصفة تكاد تكون عفوية ولاشعورية، يستوي في ذلك الصغير والكبير، والرجل والمرأة. وكانت الأعراس والمناسبات المختلفة التي يحضرها الشيخ أحمد تجذب إليها الجماهير الغفيرة من كل حدب وصوب، حتى أنها كانت توشك أحيانا أن تفرغ الحفلات الأخرى من جاذبيتها فيصدف الناس عنها صدوفا. ثم إن فرقة العرفة تخلق جوا خاصا من المرح والفرجة وكذا من التنافس بين الحاضرين الذين يتباهون فيما بينهم في "التبراح". فينفقون في سبيل ذلك ما شاء الله لهم أن ينفقوا من المال دون حساب، مندفعين في دأبهم ذلك بحماس وعصبية وتفاخر يكاد يصل إلى حد التهور والجنون. فهم يذكرون مفاخرهم ومناقب أسرهم وأنسابهم وما إلى ذلك مما يودون التباهي به. ولا بد من الإشارة هنا، فيما يتعلق بالشيخ أحمد، أنه كان وسط فرقته محترما مبجلا. فهو الآمر الناهي، وهو المايسترو الذي يسير كل شيء، ويأتمر به ويأتم به ويحذو حذوه سائر أفراد جماعته. والأمر لا يشمل فقط جانب الأداء الفني المحض، بل يتجاوزه إلى معاملة الناس خلال الحفلات. فقد كان الرجل يعرف أين يوجه فرقته، ومتى يتعين عليه أن يصرفها إلى وجهة ما. فلا يحرج أحدا، ولا يروم في عمله غلوا ولا إزعاجا. والجدير بالذكر أن شهرة هذا الشيخ تعدت بكثير حدود ناحية أحفير. فقد كان صيته ذائعا في عدة أرجاء أخرى. بل إنه تجاوز حدود الوطن، وذلك حين هاجر مع فرقته صوب فرنسا، حيث مكث بضع سنين. ولقد شاهدته شخصيا ذات يوم من أيام عام 1983 مع فرقته وهم جميعا في زيهم التقليدي المعروف، وذلك في مقاطعة "باربيس" بباريس، إذ هناك كان الشيخ أحمد يصول ويجول ويطرب ويعجب وكأنه بين أهله في أحفير أو في المنطقة الشرقية. وقبل أن أختم الحديث عن هذا الرجل الذي لا يستغرقه أو يلم به هذا الحيز القصير، أود أن أشير إلى الجانب الإنساني النبيل لهذا الشخص. فقد كان، رحمه الله، علاوة على مقدرته الفنية الرائعة، متحليا بأجمل الأخلاق متصفا بأجود الشيم. كان كريما، جوادا، حليما وطيب المعشر. كانت له علاقات جيدة مع الناس، لا يكدر صفوها عارض من عوارض الدنيا الدنية، ولا ينغصها درن السعي الحثيث وراء الماديات الزائلة. وكان أبي، أطال الله عمره، يذكر خصاله هذه بكل خير ويثني على دماثة خلقه ولين جانبه وشهامة نفسه. رحمه الله تعالى وشمله بواسع مغفرته.